سورة الحمد؛ (اهدافها - معطياتها)

پدیدآورالسیدمحمدباقر الحکیم

تاریخ انتشار1388/11/21

منبع مقاله

share 364 بازدید
سورة الحمد؛ (اهدافها - معطياتها)

السيد محمد باقر الحكيم
بالإمكان تقسيم هذه السورة المباركة بعد البسملة إلى مقاطع ثلاثة.

المقطع الاول

ويتضمّن قوله تعالى (الحمدُ للّهِ ربّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين)(1)، وهو مقطع الثناء والحمد والتمجيد للّه تبارك وتعالى.
وهناك مجموعة من النكات المهمّة يمكن ملاحظتها عند دراسة المضمون العام والكلّي لهذا المقطع الشريف يمكن جمعها في الامرين الرئيسين الآتيين :

أولاً - معالم العلاقة الإلهية بالعبد :

إذا أردنا أن نكوّن الصورة الكاملة لطبيعة العلاقة بين طرفين فلا بد أن ننظر إليها من خلال زاويتين وبعدين رئيسين هما بُعد علاقة كل من الطرفين في علاقته مع الآخر، أي بعد علاقة (أ) مع (ب) وبعد علاقة (ب) مع (أ)، لأنّ نسبة أحدهما إلى الآخر قد تكون متكافئة كما في علاقة (الاخوة) بين شخصين، وقد تكون مختلفة كما في علاقة (الابوة) و (البنوة) بين شخصين آخرين، حيث تكون الاُولى مجسّدة لبعد من العلاقة والاُخرى مجسّدة لبعد آخر من تلك العلاقة نفسها.
والعلاقة بين اللّه تعالى والعبد من النوع الثاني، حيث يمثّل البعد الاول فيها علاقة (الالوهية)، والبعد الثاني علاقة (العبودية) وذلك لاختلاف حقيقة كل منهما عن الآخر.
وقد تعرّض المقطع الاول لهذه السورة المباركة إلى تشخيص طبيعة علاقة اللّه بالعبد من بُعدها الاول (الإلهي) وحدّد لها مجموعة من الخصوصيات هي :

الخصوصية الاُولى - الحسن الاختياري في خلق الإنسان :

وفي كل فعل يصدر منه تعالى تجاه العبد أو تجاه غيره من الموجودات ويتضمّنها قوله تعالى : (الحمد للّه) في مقام مدحه والثناء عليه عزّ وجلّ و(الحمد) يكون مدحاً لامر إذا كان (حسناً) وصادراً عن (إرادة واختيار). وهذا الامر ثابت في حقّه تبارك وتعالى، إذ خلق كلّ شيء وأحسن خلقه وجعله متناسباً ومتناسقاً ومنظماً، وقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى تجاه الخلق بشكل عام وتجاه الإنسان بشكل خاص.
قال تعالى :
(الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)(2).
(... وصوّركم فأحسن صوركم وإليهِ المَصير)(3).
(أيّاً ما تدعوا فلهُ الأسماء الحسنى...)(4).
(هو اللّه الخالق البارئ المصوّر لهُ الاسماء الحسنى...)(5).
(صبغة اللّه ومَن أحسنُ مِنَ اللّهِ صبغة...)(6).
(...ثُمّ أنشأناهُ خلقاً آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين)(7).
(اللّه نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني...)(8).
(ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحقَ وأحسن تفسيرا)(9).
(لَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ في أحسنِ تقويم)(10).
وقد كان هذا الخلق الحسن عن إرادة واختيار وقدرة.
قال تعالى :
(...قل فمن يملك من اللّه شيئاً إنْ أرادَ أنْ يهلك المسيح ابن مريم واُمّه ومن في الارض جميعاً...((11)، فله القدرة والإرادة المطلقة التي لا يستطيع أن يسلبها إيّاه أحد.
(قل من ذا الذي يعصمكم من اللّه إنْ أرادَ بِكُم سوءاً أو أرادَ بِكُمْ رَحمة...)(12).
(إنّما أمره إذا أرادَ شَيئاً أنْ يقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكون)(13).
كما انّ هذا الحمد في (الحمد للّه) حمد مطلق دلّ على انحصاره به عزّ وجلّ تقديم كلمة (الحمد) على لفظ الجلالة (اللّه).

الخصوصية الثانية - التطوّر والتكامل في هذا الحسن :

ويتضمّنها قوله تعالى (ربّ العالمين) فلهذه الجملة الناقصة في مصطلح النحويين دلالة كبيرة مهمة، تمثّل خصوصية اُخرى في تصوّر علاقة اللّه عزّ وجلّ بالعبد.
فقد خلق اللّه عزّ وجلّ كلّ شيء عن إرادة واختيار، وأحسن خلقه، وجعله متناسقاً ومنَظّماً ثم جعله يسير في طريق التطوّر والتكامل، وهذا المعنى هو المستفاد من معنى ربوبيته عزّ وجلّ للعالمين، إذ الربوبية سنخ علاقة تتضمّن التطوير والتكامل للمربوب، ويفهم ذلك من كلمة (الرب).
وهذا المعنى يمكن أن نفهمه من الآية الكريمة سواء فسّرنا (العالمين) بالمعنى العام الشامل الذي يعم كل العوالم من قبيل (الجماد والنبات والإنسان والحيوان)، أو فسّرنا (العالمين) بخصوص عالم الإنس والجن والملائكة، فإنّ كل ذلك قابل للتطوّر والنمو والتكامل.

الخصوصية الثالثة - الرحمة والرأفة والمحبّة والود :

وتتضمّنها الآية المباركة (الرحمن الرحيم) وهي ليست مجرّد صفة جيء بها تكراراً لما في (البسملة) وإنّما اُريد منها تحديد خصيصة اُخرى في علاقة اللّه تبارك وتعالى بالعبد وهي علاقة (الرحمة)، فقد خلق اللّه عزّ وجلّ الخلق عن إرادة واختيار وجعله حسناً ومتناسقاً وسائراً في طريق التطوّر والتكامل، غير انّ بالإمكان أن نفترض في مسيرة تكامل الإنسان - الذي هو جزء من هذا الخلق، بل أشرف جزء فيه - ثلاثة فروض هي :
1 - أن تكون العلاقة خلال هذه المسيرة علاقة القهر والإرادة التكوينية باُسلوب العذاب، غير انّ هذا النوع من العلاقة قد نفاه القرآن الكريم.
قال تعالى :
(وَلَوْ شاء رَبّك لآمن مَنْ في الارض كلّهم جميعاً أفأنْتَ تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(14).
(إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين)(15).
2 - أن تكون العلاقة علاقة (العدل الإلهي) حيث يأ خذه أثناء عملية تكامله وتطوّره عندما يذنب بذنبه مباشرة وعندما يحسن بإحسانه مباشرة، وهذه العلاقة أيضاً قد نفيت في القرآن الكريم وانّ اللّه تعالى يؤخّرهم إلى أجلٍ مسمّى.
قال تعالى :
(ويستعجلونك بالعذاب ولو لا أجل مسمّىً لجاءهم العذاب)(16).
( ولو لا كلمة سبقت من ربّك إلى أجلٍ مسمّىً لقضي بينهم)(17).
(يَغْفِر لَكُمْ مِنْ ذِنوبكُم ويُؤخّركمْ الى أجَلٍ مُسمّىً)(18).
(وَرَبُّكَ الغَفَورُ ذو الرحمة لَوْ يُؤاخِذُهُم بِما كَسَبوا لَعَجّلَ لَهُمُ العَذابَ بَلْ لَهُمْ موعدُ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دونِهِ مَوئِلاً)(19).
3 - أن تكون علاقة التكامل والتطوّر علاقة رحمة (الرحمن الرحيم) وهو ما أشارت إليه هذه الآية كخصيصة من خصائص علاقة اللّه عزّ وجلّ بعباده.
وذلك بأن تقسم حياة الانسان الى الحياة الدنيا والحياة الاخرى وتكون الحياة الدنيا محكومة - بشكل عام - بعلاقة الرحمة الالهية المطلقة لتحقق للانسان من خلالها فرصة التكامل والتطور وباعتبار أن عملية التطور والتكامل مرتبطة بالارادة والافعال الاختيارية للانسان في هذه الدنيا حيث تكون له من خلالها فرصة التكامل والتطور فتح اللّه سبحانه وتعالى أمام الانسان باب التأجيل للعذاب والعقاب والثواب والحساب من ناحية وباب التوبة من ناحية اخرى.
ولعلّ من أبرز وأهم خصائص هذه (الرحمة الإلهية) والمرتبطة بالبعد السابق وهو حالة التكامل الإنساني هي مسألة (المغفرة والتوبة). والتي هي رحمة مفتوحة لهذا الإنسان وبشكل واسع في هذه الدنيا. إذ لولا باب المغفرة والتوبة لتوقّفت حركة الإنسان التكاملية عند إرتكابه لاي تمرّد أو معصية أو خطأ، أي كل ما يعيق عملية تربيته ونموه وتكامله في حالتي القصور والتقصير.
وأما الدار الآخرة فتكون محكومة بشكل عام بعلاقة القهر على ما سوف يأتي توضيحه في تفسير قوله تعالى : (مالك يوم الدين).
ويؤكّد هذا الفهم للعلاقة انّ كلمة الرحيم قد قرنت في (62) مورداً من أصل (95) مورداً بكلمة الغفور، وفي أكثر الموارد المتبقية بمفهوم (الرأفة) و(الود) وفي موارد قليلة (بالعزيز)، ولعلّ المراد من قرنها بالعزيز - واللّه العالم - هو اشعار الإنسان بأنّ هذه الرحمة ليست عن ضعف أو عجز، وإنّما هي عن قدرة وقوة.
وتختلف دائرة هذه (الرحمة الإلهية) في الدار الدنيا عن الآخرة، إذ تشمل في الدار الدنيا المؤمن والكافر والمشرك والمنافق وجميع الناس (من ناحية السعة لا الثبوت والاستقرار)، حيث توجد فرصة للتوبة في الدار الدنيا لا تكون موجودة بالنسبة إلى الكافر أو غيره (قُلْ يا عِبادي الذين أسرفوا عَلى أنفسهم لا تَقنَطوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إنَّ اللّه يغْفِرُ الذنوبَ جَميعا...)(20) وهكذا في العطاء والفضل والنعم الإلهية كالصحة والتجربة والجاه والرزق وغيرها.
وأمّا في الآخرة فإنّ الرحمة وإن كانت موجودة، حتى ورد في الاثر أنّ إبليس (لعنه اللّه) يطمح في مغفرة اللّه تبارك وتعالى، إلاّ انّ حداً أكّد عليه القرآن الكريم كثيراً وهو حد (العدل الإلهي)، ثمّ صرّح بأنّه سيملأ جهّنمَ من الجِنّة والناس أجمعين.
قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّك لامْلأنّ جهنّمَ مِنَ الجِنّة والناس أجْمَعين)(21).
(وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنا كُلَ نَفْسٍ هُداها وَلكِن حَقّ القولُ مِنّي لاملأنّ جَهَنّمَ مِنَ الجَنّة والناس أجمعين)(22).

الخصوصية الرابعة - العدل الإلهي :

وهي خصيصة (العدل الإلهي) وقد اُبرزت بقوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِين) فذلك اليوم هو يوم العدل لا (الرحمة بسعتها في الدار الدنيا)، ولذا لم يرد التعبير بقوله (رَحِيم أو رحمان يوم الدين)، حيث إنّ محور حركة الإنسان في الدار الدنيا الذي يتم من خلاله تكامله وتطوّره هو الإرادة والاختيار، وقد يقع من خلالهما بالخطأ والمعصية وحينئذ فقد وضع اللّه تعالى أمامه باب الرحمة المفتوح وهو التوبة، ولولاها لتوقّفت حركته وتكامله ولسدّ الباب عليه. وأمّا محور حركته في الدار الآخرة فهو القهر والإلزام، ومن الإلزام ينشأ الجزاء والعقاب ولا يكون للإرادة الإنسانية والإختيار دور معيّن يومذاك، وتكون العلاقة إذن علاقة (العدل الإلهي) الذي يعني الإلزام والجزاء.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال ان لا تكون هناك عقوبات تعبّر عن العدل الالهي في الدار الدنيا أو لا تكون هناك رحمة في الدار الآخرة. بل الأمر بالعكس فان العقوبات في الدار الدنيا موجودة ايضاً، ولذا نزلت الآيات الالهية في الكافرين والظالمين وباب الرحمة موجود في الدار الآخرة، ولذا وضعت الشفاعة والعفو عن السيئات بسبب الحسنات، وغير ذلك من الابواب.
بل المقصود من ذلك ما أشرنا إليه في التعبير (بشكل عام) وهو ان الخط العام الحاكم في الدنيا هو خط الرحمة والخط العام الحاكم في الآخرة هو خط العدل الالهي.
ويبدو من خلال الآيات القرآنية انّ الحدّ الفاصل بين ميزان الرحمة والعدل الإلهي في دار الآخرة هو العناد والتمرّد والشرك والكفر، الذي يعبّر عنه القرآن الكريم في كثير من الموارد بالإستكبار، لانّ ملاك العدل الإلهي هو الظلم، ومعنى العدل الإلهي هو إنزال الجزاء بالظالم، وإنّ للظلم هذا درجات، ودرجته التي لا يمكن التجاوز عنها هي درجة (الشرك والكفر والاستكبار).
قال تعالى :
(والذينَ كذّبُوا بآياتِنا واستَكبروا عَنها اُولئِكَ أصْحابُ النارِ هُمْ فِيها خالَدُون)(23).
(وَقالَ رَبّكُمْ ادْعوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخلونَ جَهَنَّمَ داخِرين)(24).
(قيلَ ادْخُلوا أبْوابَ جَهنَّمَ خالِدينَ فيها فَبِئْسَ مَثوى المتكبّرين)(25).
(إنَّ اللّه لا يغفِرُ أنْ يُشرك بِهْ ويغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمنْ يشاء)(26).
(يا بُني لا تُشرِك باللّه إنّ الشرك لَظُلمُ عظيم)(27).
(يومَ لا ينفعُ الظالِمينَ معذِرتهُمْ ولهُمْ اللّعنةُ ولهُم سوء الدار)(28).
ولعلّ من أروع النصوص الإسلامية التي تتحدّث عن هذه المعادلة بين الرحمة والعدل الإلهي ما ورد في دعاء كميل بن زياد النخعي المعروف الذي يرويه عن إمام المتّقين علي بن أبي طالب عليه السلام :
«فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً وما كان لاحد فيها مقراً ولا مقاماً لكنّك تقدّست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين من الجنّة والناس أجمعين وأن تخلِّد فيها المعاندين وأنت جلّ ثناؤك قلت مبتدئاً وتطولت بالانعام متكرّماً أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون»(29).

ثانياً - الاهداف التربوية والعقائدية :

يتضمّن هذا المقطع الشريف مجموعة من الاهداف يمكن تلخيصها في قسمين رئيسين :

القسم الاول - الاهداف التربوية :

ويمكن أن نلاحظ هنا :

1 - يمثّل هذا المقطع تربية للإنسان على أدب الدعاء. إذ لا بدأ بقوله تعالى (الحمد للّه). ويبدوا من مجموعة من الروايات انّ هناك آداباً معيّنة للدعاء لا بدّ من مراعاتها بغية استجابته، وأحد هذه الآداب الاساسية هو أن يبدأ الداعي بحمد اللّه وتمجيده.
2 - تربية الإنسان على أن تكون علاقته باللّه تبارك وتعالى هي علاقة الشكر من خلال حمده. ويذكر المتكلّمون أن حق الطاعة للّه على الإنسان وإلزام الأنسان بواجباته تجاه اللّه إنمّا هو من باب شكر المنعم والمحسن. وهذا الحمد في قوله تعالى (الحمد للّه) وإن كان في الواقع هو كلام إلهي، إلاّ أنه جاء في صدد تعليم الإنسان هذه القضية المركزية في حركته التربوية فهو شكر من الإنسان للّه تبارك وتعالى. ولذلك جاء بشكل ابتد ائي دون أن يقول (قل الحمد للّه...) حتى يصبح كلاماً إلهياً يجري مجرى كلام الإنسان نفسه.
3 - طرح قضية الحاجة في العلاقة التكاملية باللّه تبارك وتعالى من خلال قوله (رب العالمين) إذ يشعر الإنسان بأنه محتاج في تكامله إلى ذلك المربيّ الذي يسدّ نقص وحاجة هذا العبد بمنّة وإحسانه ثمّ ينعكس هذا الشعور حمداً لذلك المحسن والمنعم وهكذا.
4 - أن تكامل الإنسان الروحي لا يتم - كما يقول الاخلاقيون - إلاّ من خلال توازن شعور الأنسان بالخوف والرجاء في علاقته مع اللّه تبارك وتعالى. كما أ شار إلى ذلك القرآن الكريم حينما حذّر من قضية الأمن من عذاب اللّه وقضية اليأس من روح اللّه.
قال تعالى:
(إنه لا يَيْأسٌ مَنْ رَوْحِ اللّهِ إلاّ القٌوم الكافرون)(30).
(قُلْ يا عِبادي الذين أسْرفُوا عَلى أنفُسهم لا تَقْنطَوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إن اللّهَ يَغْفِرُ الذنوُب جَميعاً)(31).
(أفَأمِنوا مَكْرَ اللّه فَلا يَأمَن مَكْرَ اللّهِ إلاّ القوم الخاسِرون)(32).
(أفَأمَنوا أنْ تَأتيهُم غاشية مِنْ عَذاب اللّه أوْ تَأتيَهُم الساعة بغتة وهُم لا يشعرون)(33).
(وَأما مَنْ خافَ مَقامَ رَبّه وَنَهى النفسَ عَنِ الهَوى فَإنَّ الجنّة هَي المَأوى)(34).
(أُولئِكَ الذين يَدْعونَ يَبْتغَون إلى رَبِهّم الوَسيلُة أَيُّهُمْ أقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَه و َيخافوُن عذابَه إن عَذَابَ ربّك كان محذوراً)(35).
و قد تضمّن هذا المقطع الشريف كلا الحالتين، فمن خلال قوله تعالى (الرحمن الرحيم) ينفتح أمام الإنسان باب الرجاء برحمة اللّه عزّوجلّ الواسعة والمستمرة والثابتة، ومن خلال قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدين) يعيش الإنسان حالة الخوف من يوم الإلزام والقهر الذي سيعامل فيه من خلال العدل الإلهي.
وحينئذ لن يعتمد الإنسان على رحمة اللّه اعتماداً يؤدّي به إلى الإهمال أو التمرّد أو المعصية ولا يكون خائفاً منه خوفاً يجعله في موقع اليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمته.

القسم الثاني - الاهداف العقائدية:

يمكن ان نستخلص مجمل العقائد الإسلامية المهمة والاساسية من خلال هذا القرآني الصغير ومنها:
1 - ان اللّه تبارك وتعالي هو خالق كل شيء (مبدأ كل شيء) وهذه هي فكرة الإيمان باللّه وتوحيده. وان هذا الخلق يتّصف بالحسن والجمال والكمال وهي الفكرة العقائدية الاُولى في العقيدة الإسلامية.
2 - وان اللّه المهيمن على مسيرة الإنسان يرى هذه المسيرة بالتربية باتجاه التطور والتكامل (ربّ العالمين) وبذلك تنبثق الفكرة الثانية في العقيدة الإسلامية وهي فكرة الرسالات الإلهية التي جاءت لهداية الناس وتربيتهم وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة، كل ذلك انطلاقاً من علاقة الرحمة الإلهية بالإنسان.
3 - وان هذه الرحمة الإلهية محدودة بالعدل الإلهي الذي أعدّ الدار الآخرة للإلزام والقهر والجزاء والحساب، وهذه هي الفكرة الثالثة الاساسية في العقيدة الإسلامية، وهي فكرة الدار الآخرة.
ولا شك ان فكرتي الإمامة والعدل الإلهي التي هي من العقائد الإسلامية الصحيحة يمكن أن نستنبطهما من فكرتي النبوة والمعاد، لانّ الإمامة هي امتداد للنبوة و المعاد هو تجسيد للعدل الإلهي والاختيار الإنساني في الدار الدنيا على ما أشرنا.
وبهذا الفهم نرى أن هذا المقطع يدل على العقائد الاساسية الإسلامية دون حاجة إلى أن نضيف شيئاً إلى المعاني من خارج هذه الآيات الكريمة القصيرة.

المقطع الثاني

ويتضمّن قوله تعالى (إيَاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتعَين)(36)، ونشير في دراسة مضمونه إلى نكتتين:
النكتة الاُولى - مضمون العلاقة بين العبد واللّه:
يتناول هذا المقطع الشريف العلاقة بين اللّه والعبد في بعدها الثاني وهو علاقة (العبد باللّه) تبارك وتعالى، فهذه الآية إذن ترتبط بالآيات السابقة ارتباط سياق، وانّها تمثّل الطرف الثاني لحالة التكامل التي أشير إليها في المقطع الاول، إذ هناك عاملان مؤثّران في عملية تكامل الإنسان:
عامل يرتبط باللّه تبارك وتعالي والمتمثّل بالمضامين التي تناولها المقطع الاول من تعلق الحسن والتربية والرحمة والعدل والجزاء.
وعامل يرتبط بالإنسان نفسه وموقفه من اللّه تعالى والمتمثل بالشكر والعبادة للّه تعالى والشعور بالحاجة إليه والاستعانة به، التي يتناولها المقطع الثاني.
ولكي تتّضح صورة هذا العامل، لا بد من الإشارة إلى مجموعة من الامور المستفادة، وهي:

أولاً: الإرادة والاختيار في العبادة والتعبير عن الاستعانة:

ذلك ان المراد من قوله تعالى (إيَاكَ نَعْبُدُ وإيَاكَ نَسْتعَين) أما:
1 - اخبار الإنسان عن حالة قائمة فيه فهو بصدد بيان جملة خبرية، أي: انه إنسان يعبد اللّه ويستعين به، فكما يقول الإنسان (أنا حّي) يقول (أنا عابد للّه) و (أنا مستعين باللّه)، فكأن الإنسان يخبر عن حاله وواقعه بأنه موجود ومخلوق عابد للّه ومستعين به، هذا الإخبار نفسه والإعتراف بهذه الحقيقة هو نحو من أنحاء العبادة والشكر.
2 - أو أن يكون مضمون هذه الآية هو جملة إنشائية - وهو الارجح - والمراد منه إيجاد موقف من مواقف العبادة والاستعانة فكأنه يريد أن يوجد العبادة، ويقول: أنا الآن بصدد عبادتك والاستعانة بك، كما يقول البائع - عندما يريد أن يوجد عقد البيع - : «بعتك الدارك أو «أيّاك أبيع الدار».
وعلى كلا الاحتمالين فإنّ الهيئة التركيبية لجملة (إيّاك نعبد) تدل على حصر العبادة: - (الخضوع المشوب بالتقديس التأليهي والتعظيم) - باللّه تبارك وتعالى، إذا يذكر أهل اللغة بأن تقديم المفعول على الفعل والفاعل، فيه دلالة على حصر الفعل بالمفعول، ويستفاد من هذا الحصر أيضاً بأنّ خضوع الإنسان للّه تبارك وتعالى خضوع مطلق ينسحب على كل أعماله وتصرّفاته.
كما انّ هذا الخضوع هو خضوع اختياري، وبذلك يختلف عن الخضوع والعبادة الثابتة لكل الموجودات والكائنات التي تحدّث عنها القرآن الكريم.
قال تعالى:
(إن كُلّ مَنْ في السموات والارض إلاّ آتي الرحمن عبداً)(37).
(وللّهِ يَسْجدُ مَنْ في السموات والارض طَوْعاً وكَرهاً)(38).
(ألمْ تَرَ انّ اللّه يَسْجدُ لَهُ مَنْ في السموات ومَنْ في الارض والشمس وَالقَمَر والنُجوم والجِبالُ والشَجزُ والدَواب وكَثيرُ مِنَ الناس)(39).
وهذا مستفاد أيضاً على كلا الاحتمالين، فلو قلنا بأنّ مضمون (إيَاك نعبد) هو إنشاء للعبادة وإيجادها لدلّ على إرادة الإنسان إنشاء العبادة حال النطق فهو خضوع وعبادة اختيارية، وأمّا لو كانت ذات مضمون اخباري فإنّ تغيّر إسلوب الحديث من الحديث عن الغائب (الحمد للّه...) إلى الحديث عن الحاضر المخاطب (إيَاك نعبد...) يفهم منه التعبير عن حالة الاختيار أيضاً.
وعلى كل حال فإنّ الفهم العرفي ل(إيَاك نعبد) يدل على انّ العبادة الصادرة عن الإنسان عبادة اختيارية.
وهذا أمر واضح نفهمه أيضاً من الشرع ومن الفقه الإسلامي الذي جعل (قصد القربة) عنصراً أساسياً في مفهوم العبادة وهو عنصر اختياري، فإذا توفّر هذا العنصر في ما يكون هذا الفعل عبادياً وإلاّ فلا.
إذن، فالعبادة التي تمثّل جزء العامل الآخر المؤثّر في مسيرة تكامل الإنسان لا بدّ أن يشتمل على عنصر الاختيار وأن تكون عبادة اختيارية.

ثانياً - تطابق الإرادة مع الاحكام الشرعية:

والامر الآخر الذي يمكن أن نفهمه من الآية الكريمة بعد إدخال عنصر الإرادة والاختيار في الموضوع هو انّ عملية تكامل الإنسان إنمّا تتحقّق مع وجود هذا الاختيار، ولكن فيما إذا تمكّن هذا الإنسان من أن يجعل إرادته واختياره متطابقاً مع الحكم الشرعي وما يسمّى بالإرادة التشريعية للّه تبارك وتعالى في مقابل الإرادة التكوينية القاهرة في هذا الكون الذي يشير إليها القران الكريم في مثل قوله تعالى:
(إنمّا قَولنُا لِشىءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقول لَهُ كُن فَيَكون)(40).
(إنمَّا أمْرُهُ إذا أرادَ شَيئْاً أن يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكون)(41).
ولعلّ من الآيات التي ورد فيها استعمال كلمة الإرادة في الإرادة التشريعية هي قوله تعالى:
(يُريدُ اللّهُ بِكُم اليُسْر وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسر)(42).
(ما يُريدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ولِيُتِمَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرون)(43).
فالإنسان بصفته موجوداً يختلف عن بقية الموجودات(44) في ان تكامله لا يكون من خلال إرادة اللّه التكوينية فحسب مع ما لها من دخل في ذلك، إذ أحسن اللّه خلقه، وأعطاه العقل والإدراك والفطرة... بل لا بد له من استخدام إرادته للوصول إلى هذا التكامل، وهنا لا بد من أن تتطابق إرادته مع الإرادة التشريعية للّه تعالى والتي تشمل كل واجب ومحّرم ومستحب ومكروه، بل وحتى المباحات(45).
وكلّما كان هذا التطابق واسعاً وشاملاً لكلّ تصرّفات الإنسان كلّما كانت مسيرة هذا الإنسان التكاملية أسرع وأفضل.
ومن هنا كانت عبادة الإنسان مختلفة في آثارها ونتائجها التكاملية عن عبادة السماوات والارض، لانّها عبادة اختيارية وإرادية كما ذكرنا، فعندما تتطابق هذه العبادة مع الحكم الشرعي تصبح طريقاً أساسياً لتحقيق هذا التكامل.
وبهذا يمكن أن نفهم ضرورة أن تكون العبادة (توقيفية) حتى تتطابق مع الحكم الشرعي، لأنّ الشارع المقدّس وقف العبادة على صيغ معينّة وإطارات معيّنة لا يصح للإنسان أن يتعدّاها ولا يكفي الاختيار في تحقيق التكامل ما لم تكن العبادة وفق الصيغ الشرعية، وإلاّ كانت بدعة وتكون سبباً لانتكاسة الإنسان في مسيرته.

معطيات الاُسلوب القراني

وأما فيما يتعلّق باستخدام القران لصيغة الخطاب المفرد والمتكلّم الجمع (أيَاك نعبد) ولم يقل (ايّاكم نعبد) او (اياكم اعبد) او (اياك اعبد) فأستخدم ضمير المفرد طلب للّه تبارك وتعالى، وهيئة فعل المضارع الدال على الجميع للعبد، فإنّ بالإمكان استخلاص مجموعة من الخصوصيات من هذا الاستخدام قد توضّح بصورة أكبر ما أشرنا إليه من معنى في (إيّاك نعبد)، ومن هذه الخصوصيات :
1 - انّ ضمير المخاطب المفرد (إيّاك) يدلّ على الإخلاص والتوحيد في العبودية مع التعبير عن حالة الحضور، حيث انّ ضمير الجمع قد يوهم الشرك والتعدّد، وإن كان يستخدم لتعظيم الفرد - أحياناً -، ولكن العبادة بنفسها غاية في التعظيم والتقديس، فهو مدلول عليه بمفهوم العبادة ومن خلال مادتها اللغوية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى مسألة التوحيد في العبودية، أي (الإخلاص) وجعلها العنصر الاساس في قدرة الإنسان على الوصول إلى الدرجة العالية من التكامل.
قال تعالى :
(إنّا أنزلنا إليكَ الكِتابَ فاعْبُدِ اللّهَ مُخلِصاً لهُ الدِين * ألا للّهِ الدِينُ الخالِصُ والذينَ اتَّخذوا مِنْ دونِهِ أولياءَ ما نعبُدُهُمْ إلاّ لِيُقرِبونا إلى اللّهِ زُلفى إنَّ اللّهَ يحكُمُ بينهُم في ما هُم فيهِ يختلِفُون إنَّ اللّهَ لا يهدي مَنْ هُوَ كاذِبُ كفَّار)(46).
(قُلْ إنّي اُمِرتُ أنْ أعبُدَ اللهَ مُخلِصاً لهُ الدِينَ)(47).
(والذينَ اجتَنَبوا الطاَّغُوتَ أنْ يعبُدوها وَأنابوا إلى اللّهِ لهُمُ البُشرى فبشرْ عِبادِ * الذينَ يستَمِعونَ القولَ فَيَتَّبِعون أحسنَهُ اُولئِكَ الذينَ هداهُمُ اللّهُ واوُلئِكَ هُم اُولو الألبابِ)(48).
وفي آيات اُخرى إشارة إلى انّ الذي اُنزل على الانبياء عليهم السلام أو اُمِرَ الناس به وطلب منهم ما هو إلاّ العبادة المخلصة.
قال تعالى :
(وما اُمِروا إلاّ لِيَعبُوا اللّهَ مُخلِصينَ لهُ الدين حُنفاء ويُقِيموا الصلاة ويُؤتوا الزّكاة وذلكَ دِينُ القيمة)(49).
(هُوَ الحيّ لا إلهَ إلاّ هُوَ فادعوه مُخلِصينَ لهُ الدين)(50).
وانّ إخلاص الإنسان في عبادته سبيل نجاته وعدّه في صف المؤمنين.
قال تعالى :
(إلاّ الذينَ تابوا وَأصلَحوا واعتَصَموا بِاللّهِ وأخلَصوا دينُهم للّهِ فاُولئِكَ معَ المُؤمِنين)(51).
فالدين الذي هو دين اللّه إنّما هو الدين الخالص.
والعبادة لا بد أن تكون خالصة منزهة عن مسألة الشرك.
وقد كانت قضية الشرك باللّه من أهم القضايا الاساسية التي عالجها القرآن الكريم في مختلف سوره ومراحل نزوله، حيث كانت مطروحة في التأريخ البشري وفي البيئة التي نزل فيها القرآن بشكل خاص.
اضافة إلى دلالة ضمير المفرد المخاطب على مسألة الإخلاص ونفي الشريك، فإنّ في تقدّمه على الجملة (إيّاك نعبد) دلالة على حصر العبودية به تعالى الذي يفهم منه (الإخلاص الكامل) له تعالى، أيضاً.
وفي اسلوب الخطاب دلالة على (الحضور)، وقد اهتمّ القرآن الكريم في آيات عديدة ببيان حقيقة قربه عزّ وجلّ من الإنسان في كل مكان وزمان وانّه يسمع الإنسان ويراه ويعرف سرّه ونجواه.
قال تعالى :
(ونحنُ أقربُ إليهِ مِن حبلِ الوريد)(52).
(ونحنُ أقربُ إليهِ مِنكُم ولكِن لا تُبصِرون)(53).
(أم يحسبون انا لا نسمعُ سِرّهُم ونجواهُمْ)(54).
2 - تدلّ الصياغة في (إيّاك نعبد) على انّ العبادة مسؤولية جماعية وليست مسؤولية فردية، حيث يمكن أن توحي بذلك فيما لو كان الفعل بصيغة المفرد (إيّاك أعبد)، فالإنسان مسؤول عن عبادته ومسؤول عن أن يعبد الآخرون معه اللّه تعالى.
قال تعالى :
(وتواصَوا بِالحق وتواصَوا بِالصَبر)(55).
(ولتكُنْ مِنكُمْ اُمةُ يدعونَ إلى الخيرِ ويَأُمرون بِالمَعروفِ وينهَونَ عنِ المُنكَر واوُلئِكَ هُمُ المُفلِحون)(56).
(والذينَ إن مكنّاهُم في الأرضِ أقاموا الصلاةَ وآتوا الزّكاة وأمروا بِالمَعروفِ ونهوا عنِ المُنكرِ وللّهِ عاقِبَةُ الاُمور)(57).
(والمُؤمِنونَ والمُؤمِنات بعضُهُم أولِياء بعض يأمُرونَ بِالمَعروفِ وينهونَ عنِ المُنكر ويُقِيمونَ الصلاةَ ويُؤتون الزكاةَ ويُطيعونَ اللّهَ ورسولَه اُولئِكَ سيرحمُهُم اللّهُ إنَّ اللّهَ عزيزُ حكيم)(58).
3 - وعندما تكون صيغة الفعل (نعبد) تدلّ أيضاً على انّ عبادة الإنسان الاختيارية هي حالة منسجمة مع ما هو موجود وقائم في الكون كلّه، اذ اشير سابقاً الى ان ظاهرة العبادة لله ظاهرة موجودة في كل الكون الذي يسير بها نحو تكامله من خلال الإرادة التكوينية، وتشمل هذه الظاهرة حينئذ الإنسان أيضاً، غاية ما في الأمر انّ تكامله لا يتم إلاّ من خلال إنسجام إرادته مع الإرادة التشريعية للّه تبارك وتعالى، كما قلنا، ولعلّ هذا هو الذي تشير إليه الآية (18) من سورة الحج، حيث جاء التعبير (وكثير من الناس) في مقام العطف على سجود الشمس والقمر والنجوم.
4 - كما إنّ هيئة الفعل الدالة على الجمع (...نعبد...) تجعل الفرد مندكاً وذائباً في الجماعة ولا يرى العابد نفسه شيئاً أمام اللّه تبارك وتعالى، وبذلك يعالج الإنسان حالة الانانية في شخصيته التي هي المصدر الاساسي لنمو عنصر الطغيان ووجود حالة الطاغوت في الإنسان، وهذا بخلاف ما لو ورد التعبير ب(إيّاك أعبد)، فقد يحس الإنسان بأنّه شيء مستقل في مقابل اللّه تعالى الواحد الاحد، فهو وجود قبالة وجود اللّه، غاية ما في الامر انّه وجود عابد للّه تعالى، وحينئذ تتكرّس عنده حالة الانانية من خلال هذا الشعور الخاطئ.

ثالثاً - الاستعانة تعبير عن الحاجة

ويمكن أن نفهم جميع الابعاد والخصوصيات في (إيّاك نستعين) ممّا ذكر من خصوصيات لعبارة (إيّاك نعبد)، إذ انّ الفرق بينهما انّما هو في الفرق بين مادتي (الاستعانة) و(العبادة)، وأما الابعاد الاُخرى المرتبطة بالهيئة واسلوب التعبير و صياغته فهي تأتي بنفسها في (إيّاك نستعين) فلا نحتاج أن نعيدها.
وأما الاستعانة فهي عنصر أساسي أيضاً في التكامل المرتبط بالإنسان كالعبادة. والآية بجزئها الثاني (إيّاك نستعين) في معرض تنبيه الإنسان إلى انّ تكامله لا يتم بمجرّد أن يكون مريداً لذلك، بل هو لا يستطيع شيئاً إلاّ بإرادة اللّه تبارك وتعالى وبالاستعانة به.
وان هذه الاستعانة مطلقة ايضاً وتنسحب على كل وجوده.
وانّ إحساس الإنسان بالحاجة إلى اللّه، الامر الذي يفرض الاستعانة باللّه تبارك وتعالى سيكون علاجاً لما قد يحدث في نفسه من شعور من خلال (إيّاك نعبد) من انّ ارادته ارادة مستقلة عن إرادة اللّه، بل هي إرادة خاضعة لإرادته عزّ وجلّ، خصوصاً بعد أن اشير إلى انّ تكامل الإنسان لا يتم إلاّ من خلال تطابق إرادته مع إرادة اللّه عزّ وجلّ الامر الذي يوحي بوجود إرادتين مستقلة إحداهما عن الاُخرى.
وقد أكدّ القرآن الكريم هذا الامر من خلال آيات كثيرة، وبيّن انّ الإرادة والإشارة الحاكمة على كل الإرادات والمشيئات هي إرادته عزّ وجلّ.
قال تعالى :
(إنّما أمرهُ إذا أراد شيئاً أن يقول لهُ كُن فيكون)(59).
(وما تشاؤون إلا أن يشاءَ اللّه)(60).
(ولا تقُولنّ لِشيءٍ انّي فاعِلُ ذلِك غداً * إلا أن يشاءَ اللّه...)(61).
اضافة إلى انّ الشعور بالحاجة الذي تعبّر عنه (الاستعانة) يعالج في الإنسان أيضاً (الهوى) والميل إلى الطغيان، حيث يرى نفسه يملك الإرادة والاختيار، بحيث يتصرّف أحياناً بما يخالف الإرادة التشريعية للّه تعالى.

النكتة الثانية - الاهداف التربوية والعقائدية :

يتضمّن هذا المقطع مجموعة من القضايا العقائدية والتربوية المهمة، ومنها :

اولاً - العقائدية :

حيث تمّ تأكيد جانب التوحيد الخالص والعبادة الخالصة للّه تبارك وتعالى من خلال (إيّا نعبد) وهي أهم فكرة عقائدية في الإسلام، ومن خلال (إيّاك نستعين) على حاجة وفقر الإنسان للاستعانة باللّه تبارك وتعالى في كل أعماله وتصرّفاته التي هي فكرة عقائدية أيضاً، حيث تدل على انّ الإنسان (حادث) ومخلوق للّه تعالى (الغني).

ثانياً - التربوية :

1 - يفهم من قوله تعالى (إيّاكَ نعبُد) العبادة المطلقة الشاملة، وهذا يدل على انّ بإمكان العبد أن يجعل حالة العبادة تعم كل تصرّفاته وأفعاله حتى تلك التي يهواها في نفسه من أكل وشرب وغرائز مختلفة، حيث يمكنه أن يمارس كل ذلك بقصد التقرّب للّه تعالى والشكر له على هذه النعم، واعطاء هذه الفرصة الكبيرة للإنسان للتعبير عن عبادته وشكره هو من أفضل النعم الإلهية عليه، ولعلّ الميزة الاساسية التي يتفاضل بها الانبياء وغيرهم من المعصومين على بقية البشر - اضافة إلى العصمة من الذنوب - هي انّهم يحوّلون جميع أعمالهم وتصرّفاتهم إلى أعمال عبادية يقصدون بها التقرّب إلى اللّه تعالى - كما يذكر ذلك عن المعصومين عليهم السلام -.
2 - وانّ الإنسان كلّما اقترب من الحالة الواقعية ل(إيّاكَ نعبدُ) بمعنى المطلق الشامل، أي بمعنى انّه يجعل كل وجوده خاضعاً للّه تعالى كلّما اقترب من اللّه عزّ وجلّ وترقّى في سلم التكامل والتطوّر، لانّ طريق التكامل للإنسان هو العبادة الاختيارية له.
3 - وانّ الإنسان ليس له وجود مستقل قبالة الجماعة، وانّ تكامله وإن كان بالإمكان أن يحصل بشكل فردي ولكنّه تكامل محدود، وانّ الحالة الفضلى للتكامل ما يتم من خلال الجماعة، ولذلك جعل مكلّفاً وموظّفاً لتغيير الجماعة وإيجاد التكامل فيها.
4 - وانّ الإنسان لا يمكنه أن يسير في طريق التكامل اعتماداً على إرادته واختياره فحسب، بل لا بدّ له من الاستعانة باللّه تبارك وتعالى حتى وإن كان عابداً مختاراً، وإنّ مستقبله وتكامله مرهون بيد اللّه ولا يستطيع أن يرسمه هو وحده، إذ لا بدّ فيه من أن تتطابق إرادته مع إرادة اللّه التشريعية، وهذا الامر لا يحصل إلاّ من خلال العون الإلهي.

المقطع الثالث

ويتضمّن قوله تعالى (اهدِنا الصِراطَ المُستقيم صِراطَ الذينَ أنعمتَ عليهِم غيرِ المغضوبِ عليهِم ولا الضّالِّين)(62).
ويقع الحديث فيه ضمن نقطتين رئيستين :

الاُولى - المضمون الإجمالي :

ولهذا المقطع الشريف ترابط سياقي مع سابقيه، لانّه تضمّن دعاءً وطلباً من العبد تجاه اللّه تبارك وتعالى، وهذا الدعاء بمضمونه يمثّل هدف وطموح مسيرة الإنسان التكاملية التي حدّدت من خلال المقطع الاول والثاني السابقين، لانّه لا بدّ من وجود هدف وطموح لكل مسيرة تكاملية، وهذا المقطع يمثّل هذا الهدف وهذا الطموح، كما انّه استجابة للشعور بالحاجة إلى اللّه تعالى، حيث يعبّر الدعاء عن مصداقية هذه الحاجة، وبذلك يتّضح الارتباط السياقي بين هذا المقطع وما قبله من المقطعين الشريفين.
وقد أشار هذا المقطع إلى جملة من المعاني والمضامين العالية، منها :

أولاً - التكامل نزعة فطرية في الإنسان :

انّ التكامل يمثّل بالنسبة إلى الإنسان حالة ونزعة فطرية وثابتة فيه تنعكس على إرادته واختياره، ولولاها لما كان له طلب ودعاء من اللّه، لانّ اللّه تعالى خلقه بأحسن خلق وفرض عليه العبادة وأعانه على هذه العبادة لحاجته وفقره وعوزه وهداه إلى كل هذه الحقائق. فلولا وجود هذه النزعة الفطرية نحو الكمال لما كان هناك حاجة إلى طلب المزيد من اللّه المتمثل بالمقطع الثالث من السورة المباركة.
وبهذه النزعة افترق الإنسان عن بقية الموجودات التي وإن فرض وجود التكامل في مسيرتها أيضاً، إلاّ انّها حالة قهرية تكوينية تتحقّق من خلال النظام الكوني المتطوّر والمتكامل، والإنسان بهذا البعد خاضع لهذا النظام ويتكامل من خلاله : نطفة، فعلقة، فمضغة،....
(يا أيُّها النّاسُ إن كُنتُم في رَيبٍ مِنَ البَعثِ فإنَّا خلقناكُم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفةٍ ثُمَّ مِن علقةٍ ثُمَّ مِن مُضغةٍ مُخلَّقةٍ وغيرِ مُخلَّقةٍ لنُبيِّنَ لكُم ونُقِرُّ في الأرحامِ ما نشاءُ إلى أجلٍ مُسمّىً ثُمّ نُخرِجُكُم طِفلاً ثُمّ لِتبلُغوا أشدَّكُم ومِنكُم من يُتوفَّى ومِنكُم من يُردُّ إلى أرذلِ العُمُرِ لِكيلا يعلَمَ مِن بعدِ عِلمٍ شيئاً)(63).
فخصوصية التكامل والتطوّر وإن كانت شاملة لانّها تعبير عن الكمال الإلهي، لانّ كل ما يصدر من اللّه متّصف بالكمال والحسن الاّ انها في الجانب التكويني وأما التكامل الذي يتحقق بشكل إرادي فهو من خصائص الإنسان، وهو يمثّل نزعة فطرية فيه تدفعه في طلب مزيد منه.
ثانياً - التوفيق الإلهي سبب للوصول إلى الهدف :
إنّ تفسير حاجة الإنسان إلى مزيد من الهداية حتى بعد أن يهتدي ويقف موقف العبودية والاستعانة باللّه تعالى، راجع إلى انّ الإنسان وإن تيسّرت له أسباب الهداية الذاتية مثل العقل الذي يهديه إلى اللّه بما تفضّل اللّه به عليه، وكذلك الفطرة التي تجعله يتّجه إلى اللّه تعالى، لأنّ الإنسان ينزع إلى الكمال كما ذكرنا، واللّه هو الكمال المطلق، فلا بدّ أن يتّجه إليه بفطرته.
ولكن بالرغم من كل ذلك هو بحاجة إلى الهداية الخارجية لعدم كفاية العقل والفطرة وحدهما في تحقيق هدايته وتكامله وإيصاله إلى الدرجات العالية في مواقع القرب من اللّه تبارك وتعالى.
وهذه الهداية الخارجية تارة تكون هي الوحي الإلهي والكتب السماوية والرسالات الإلهية التي جاءت على يد الانبياء والمرسلين، واُخرى تكون بالتدخل الإلهي المباشر في الهداية.
ولا شك انّ الإنسان يشعر دائماً بالحاجة إلى الهداية الخارجية الثانية والتي يعبّر عنها بعض المفسّرين بالتوفيق الإلهي. ذلك لانّ الإنسان يرى انّ مجرّد دلالة العقل والفطرة الإنسانية وكذلك خط النبوّة والرسالات الإلهية على الطريق إلى اللّه غير كافٍ في تحقّق الهداية الخارجية - وإن كانت كافية في إقامة الحجة عليه من اللّه تعالى - حيث قد يتحقّق الجحود والتمرّد من هذا الإنسان.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في مواضع عديدة مثل الآيات التي تؤكّد أنّ الهداية بالمشيئة الإلهية، كقوله تعالى :
(إنَّكَ لا تهدي من أحببتَ ولكِنّ اللّه يهدي من يشاء)(64).
(ليسَ عليكَ هُداهُم ولكِن اللّهَ يهدي من يشاء)(65).
(ذلِكَ هُدى اللّه يهدي بِهِ من يشاءُ مِن عِبادِه)(66).
وهي آيات عديدة، وكذلك الآيات التي جاءت في مقام نفي الهداية عن القوم (الفاسقين) و(الظالمين) و(الكافرين) وهي كثيرة.
وأيضاً الآيات التي جاءت تؤكّد انّ الهداية هي سبب لمزيد من الهداية الإلهية، مثل قوله تعالى :
(ويزيدُ اللّهُ الذين اهتدوا هُدىً)(67).
(والذينَ اهتدوا زادهُم هُدىً وآتاهُم تقواهُم)(68).
ولا شك أنّ هذه الهداية غير الهداية الإلهية المتمثلة بإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية، فالإنسان يكون بحاجة - وبعد كل تلك الهدايات - إلى رعاية ورحمة من اللّه وتوفيق خاص للوصول إلى هدفه الاسمى، وهو ما يطلبه من اللّه سبحانه وتعالى من خلال دعائه إيّاه في المقطع الثالث من السورة الشريفة، وهذا الطلب في الوقت الذي يعبّر عن نزعة الإنسان نحو الكمال، يعبّر أيضاً عن شعوره بالحاجة إلى الهداية الإلهية، فيكون ذلك مصداقاً من مصاديق الاستعانة في قوله تعالى : (وإيّاكَ نستَعين).

ثالثاً - الطابع الفطري للسراط المستقيم :

انّ القرآن الكريم وصف هذا الهدف الذي يطلبه الإنسان بالسراط المستقيم، وسوف نتحدّث في أحد الموضوعات الآتية عن المقصود بالسراط المستقيم مصداقاً ومعنىً. كما انّ القرآن يحدّد في هذا المقطع الشريف أبعاداً ومواصفات لهذا الصراط المستقيم. ولكن الملاحظة التي نريد أن نشير إليها هنا نقطة ترتبط بالاُسلوب القرآني الذي يحتاج إلى بحث مستقل، وهذه النقطة هي انّ القرآن الكريم يستخدم بشكل عام ألفاظاً وصفات ومصطلحات تتجاوب مع فطرة الإنسان وتكون محببّة لديه وذلك من أجل تعميق المعاني القرآنية في النفس البشرية، من قبيل لفظ (الوسط) (وكذلِكَ جعلناكُم اُمَّةً وسطاً لِتكونوا شُهداءَ على الناس)(69)، و(العدل) (إنَّ اللّهَ يأمُرُ بِالعَدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى...)(70)، و(القسط) (وإن حكمتَ فاحكُم بينَهُم بِالقِسطِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ
المُقسِطين)(71)، إلى غير ذلك من الالفاظ المحبّبة لدى الإنسان التي تتجاوب مع الفطرة الإنسانية السليمة.
وقد وصف القرآن الكريم في هذا المقطع الطريق الذي يراد هداية الإنسان إليه ب(المستقيم). والاستقامة لفظ محبّب لدى الإنسان السليم السوي، وتميل إليه نفسه وتتجاوب معه فطرته، فالقرآن حين يطرح هذا الوصف للسراط يريد أن يشير إلى انّ هذا السراط الذي يطلب الإنسان الهداية إليه هو سراط منسجم مع الفطرة الإنسانية ويوصل الإنسان إلى الهدف التكاملي له.
وذلك باعتباره مما يدركه الإنسان بالوجدان من انّ الاستقامة تتضمّن تعبيراً عن أقصر مسافة بين نقطتين والسراط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة إلى الهدف، فيكون طريق الهداية - إذن - اضافة إلى تجاوبه مع الفطرة السليمة هو أقصر وأقرب الطرق الموصلة إلى اللّه تعالى.
ونجد هذا الامر - وهو التعامل مع الفطرة موجوداً - فيما حدّده القرآن الكريم من حدود لهذا السراط المستقيم، إذ جعل حدّ الاول (صِراطَ الذينَ أنعَمتَ عليهِم)، ومن الواضح انّ سير الإنسان في طريق من يكون في موضع النعمة والفضل الإلهي أمر يتّفق مع ميوله وفطرته ومحبّب إلى نفسه بحدّ ذاته حتى مع غضّ النظر عمّا يتضمّنه هذا الحد من المعاني والمضامين التي بحثت في تفسير هذه الحدود والمفردات.
كما نجد هذا الامر أيضاً في حدّه الثاني والثالث (غيرِ المغضوبِ عليهِم ولا الضالّين)، إذ انّ الإنسان يرفض وبفطرته فكرة أن يكون طريقه هو طريق من يكون في موضع الغضب والانتقام الإلهي. أو أن يسلك طريق الضلال والضياع والحيرة والخروج عن الجادة.
وبهذا الاسلوب يطرح القرآن الكريم المعاني العقائدية والتربوية بالصيغة التي يخاطب بها الفطرة الإلهية.
كما انّ اتّصاف الطريق المطلوب أن يهتدي الإنسان إليه بصفات وحدود فطرية أمر يتّفق مع الفكرة الاصلية للدعاء (إهدِنا...) الذي يعبّر عن شعور الإنسان الفطري بالحاجة إلى التكامل والرقي.
رابعاً - الحدود الموضوعية للسراط المستقيم :
ولم يكتف القرآن الكريم في تحديد السراط المستقيم بمخاطبة الفطرة الإنسانية، بل ذكر من خلال هذا المقطع حدود السراط المستقيم الموضوعية بحيث يتمكّن الإنسان أن يشخّصه بمصاديقه الخارجية فذكر له حداً إيجابياً، وحدّين سلبيين :

الاول : وهو الحد الموضوعي الإيجابي والمتمثل بأمرين، هما :

1 - القدوة الحسنة :

وقد تضمّنها قوله تعالى (أنعَمتَ عليهِم) الذي فُسّر بالانبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، فيكون القرآن الكريم قد حدّد السراط من خلال امثلة قائمة في حياة هذا الإنسان وهم السائرون في هذا الطريق من الانبياء والشهداء والصّديقين والصالحين وجعلهم قدوة له.
وبالإمكان الإشارة هنا إلى أهمية ودور القدوة الحسنة في تربية وهداية الإنسان، إذا انّ من المناهج الاساسية في الإسلام هي القدوة الحسنة حيث من الملاحظ بأن الهداية في كثير من الأحيان لا تتحقّق بمجرّد إعطاء المفاهيم والافكار والنظريات، وإنّما تشكّل (القدوة الحسنة) عنصراً أساسياً في هذه المناهج. فعندما يريد أن يحدّد القرآن الكريم السراط المستقيم يحدّده من خلال هؤلاء القدوة الذين أنعم اللّه عليهم.

2 - الشريعة الإلهية :

فإنّ القرآن الكريم عندما يطرح هذا السراط على أساس انّه سراط الانبياء، فهو بذلك يشير إلى الشريعة التي جاء بها هؤلاء الانبياء من اللّه تعالى في الوقت نفسه الذي يطرحهم بصفتهم قدوة حسنة لهذا الإنسان في مقام الهداية والشريعة - بطبيعة الحال - تقترن بفكرة عقائدية مهمة، وهي فكرة (النبوة)، حيث إنّ الشريعة إنّما كانت باعتبار اتّصاف هؤلاء (الانبياء) بها.
وهداية العقل والفطرة غير كافية للإنسان لإيصاله إلى الاهداف القصوى في مسيرته التكاملية وإن كانت قادرة على أن تضعه على الطريق إليها، ولذا فلا بدّ له من هداية ربّانية تأخذ بيده في الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه تبارك وتعالى وإلى أهدافه التكاملية العليا.
وقد تضمّنت فكرة القدوة الحسنة في قوله تعالى : (أنعَمتَ عليهِم)، حيث اُريد بهم الانبياء ومن سار بسيرتهم، طرح فكرة الوحي الإلهي التي هي من خصوصيات الانبياء والرسالات، أي (خط النبوّة) الذي تتحقّق من خلاله تلك الهداية الربّانية المنشودة في الوصول إلى الاهداف الكاملة.
الثاني : وهو الحد الموضوعي السلبي المتمثّل ب :
أولاً : ب(غيرِ المغضوبِ عليهِم)، حيث إنّها تعبّر عن الجحود والتمرّد والعتو والطغيان، لانّ القرآن الكريم يستخدم الغضب الإلهي في مثل هذه الحالات، و هذه الحالات وإن كانت صفات قائمة في النفس الإنسانية ولكنّ لها وجوداً موضوعياً يمكن للإنسان أن يميّزه ويعرفه، فيعرف بذلك حد السراط المستقيم، لانّ من كان على إحدى هذه الحالات لا يكون على السراط المستقيم، ولا يمكن أن تجتمع هذه الحالات مع السير على السراط المستقيم، ومن ثمَّ سوف تشكّل أحد جانبي الحد السلبي له ، وهو حد الطغيان والعتو والجحود.
ثانياً - ب(وإلا الضالّين)، حيث تعبّر - ولو بقرينة المقابلة مع المغضوب عليهم - عن حالة الخروج عن الطريق والضياع والحيرة والترددّ وهي حالة بإمكان الإنسان أن يدركها في نفسه عندما يشعر بالحيرة والتردّد والشك، ومن ثمَّ الضياع وعدم الوضوح في المسيرة، فيدرك عندئذٍ انّه ليس على الصراط المستقيم، إذ لا يمكن أن تجتمع هذه الحالة مع السير على السراط المستقيم، وبذلك يدرك جانباً آخر من جوانب الحد السلبي الموضوعي لهذا السراط.
وبهذا يتحدّد السراط ببعده الإيجابي المتمثّل بالشريعة والكتاب والتجسيد العملي لها في القدرة الحسنة، ويبعده السلبي المتمثّل بالتمرّد والطغيان والعتو والحيرة والضياع.

الثانية - المضمون العقائدي والتربوي:

وقد تعرّض هذا المقطع الشريف لمجموعة من المضامين العقائدية والتربوية، ونجملها بما يلي:

اولاً - المضامين العقائدية:

1 - إن اللّه تعالى أودع في الإنسان نزعة فطرية تدفعه نحو الكمال، وهذا الامر يرتبط بالنظرية القرانية في فهم الإنسان وتقييمه، وبذلك يتميّز الإنسان عن كثير من المخلوقات في هذا الكون.
وهذا الفهم يمثّل خلفية لإرسال الانبياء والرسل للإنسان دون كثير من الحيوانات، فإن كثيراً من الحيوان لما لم تكن لديه هذه النزعة، تركة اللّه تعالى في مسيرته لغزائره التي أصبحت موجهة له وهادية، فلم يكن بحاجة إلى إرسال الرسل والهداية السماوية بخلاف الإنسان الذي ينزع إلى الكمال والرقي في فطرته ويملك القدرة على ذلك بما وهبه اللّه من عقل ومعرفة، فكان ينزع إلى التكامل ويطمح الى الرقي والحركة بهذا الإتجاه، فكانت الرسالات السماوية هادية له وضماناً لعدم انحرافه في هذه المسيرة، ولولا ذلك لدفعته هذه النزعة نحو حركة غير واضحة الاهداف والحدود ولانتهت به إلى طريق الانحراف.
2 - تعرّض المقطع الشريف إلى خط النبوة (الوحي، الانبياء، الكتب) ودوره في هداية الإنسان.
3 - الإيمان بالتوفيق الإلهي والرعاية الإلهية في الوصول إلى الاهداف والكمالات، إذ لا تكفي القابليات البشرية (الفطرة والعقل) مع الهدايات الرسالية في إيصاله إلى أهدافه، كما تشير إلى ذلك فكرة التفويض الإسرائيلية التي ترى بأنّ اللّه تعالى خلق الإنسان وفوّض له الامر بحسب قابلياته وطاقاته، بل لا بدّ أن يقترن ذلك بتوفيق اللّه الذي لا بدّ أن يسعى الإنسان إليه ويطلبه من اللّه تبارك وتعالى.
4 - ان مسيرة التكامل الإنسان هي تلك المسيرة التي تكون منسجمة مع تلك المثل والقيم الفطرية المودعة فيه من قبل اللّه تبارك وتعالى. فبذرة التكامل موجودة في نفس الإنسان أوجدها اللّه فيه من خلال تعليمه الاسماء فإذا كانت خطوته ومسيرته منسجمة مع طبيعته هذه البذرة الخيّرة كانت تكاملية. ودور الدين والشريعة هو رسم الخطوات ومعالم هذا الطريق التكاملي المنسجم مع الفطرة الإنسانية.
ولذلك كان الدين الإسلامي الذي هو دين الحق، (دين الفطرة)، قال تعالى:
(فَأقِمْ وَجهْكَ للِدْينِ حَنيفاً فطرة اللّهِ التي فَطَرَ الناسَ عَليهاَ لا تبَديلَ لِخلقِ اللّهَ ذلكَ الدينُ القَيم...)(72).
وتنبثق من قضية (الفطرة) فكرة (العقل العملي) إذ أودع اللّه سبحانه وتعالى في الإنسان قدرة إدراك الحسن والقبح بدرجة من الدرجات، وهذا الإدراك يمثّل في الواقع منهجاً خاصاً في المسيرة العملية، حيث يكون العقل عاملاً من عوامل الهداية ودليلاً على الحكم الشرعي، وهذا بحث (كلامي) يرتبط بما يسّمى (بالحسن والقبح العقليين).

ثانياً - المضامين التربوية:

ومن أهم المضامين التربوية التي يمكن استخلاصها من هذه الآيات المباركات، ما يلي:
1 - القدوة الحسنة ودورها المكمّل لدور المفاهيم والافكار في عملية تربية وتكامل الإنسان، وعلى هذا الاساس نجد ان تأثير الانبياء في الناس لم يقتصر على طرح الآيات والمفاهيم والافكار، بل كان كذلك في سلوكهم عليهم السلام ودورهم في تطبيق تلك الافكار عملياً، ولذا اهتمّ القران الكريم بالامر بالاقتداء بهم وبطرح قصصهم، وأمر بالتدبُّر بمواقفهم وصبرهم وثباتهم وكيفية تعاملهم مع الناس، لاتخاذ العبرة والموعظة منها. وهذا يمثّل منهجاً عملياً في الدعوة إلى اللّه، فإن أي إنسان إذا أراد أن يؤثر في الناس فلا يكفي في ذلك طرح المفاهيم والافكار، بل لا بد من تجسيد القدوة في السلوك العملي، وبذلك يكون التأثير أكبر.
2 - دور التطبيق في وضوح المسيرة:
إن للتطبيق دوراً في وضوح المفاهيم وادراك الحقائق، إذ لا يكون هذا الوضوح والإدراك كاملاً إلاّ من خلاله، وفي قصّة إبراهيم عليهم السلام إشعار بذلك.
قال تعالى:
(وَإذْ قالَ إبراهيم رَبّي أرِني كَيفَ تُحيي المَوتى قال أوَ لَم تُؤمِم قالَ بَلى ولكِن لِيطمئنَ قَلبي)(73).
فقد تحصل للإنسان درجة من الإيمان بأمر ما لو طرح عليه بصورة نظرية وعلى شكل مفاهيم وأفكار، ولكن الدرجة الكاملة من الوضوح لا تحصل عنده إلاّ من خلال التطبيق العملي لذلك الامر.
ولا بد من أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار في قضية الهداية، فالوضوح الكامل للهداية لا يتم إلاّ من خلال التطبيق لها، وعندما ذكر (إهدنا الصراط المستقيم) ذكر مفهوم السراط المستقيم، ثم ذكر بعد ذلك الحالة التطبيقية له، في قوله (صراط الذين أنعمت
عليهم...) من خلال ذكر صور حقيقية واقعية في حياة الإنسان (القدوة الحسنة). وبذلك أصبحت صورة السراط المستقيم صورة واضحة بصورة كافية.
3 - ان حالة التمرّد والجحود والضياع والحيرة حالة نفسية وروحية يعيشها الإنسان وتجعله في موضع الغضب الإلهي، وهذا الغضب الإلهي قد يكون في صورة مزيد من التمرّد والجحود ( وَلا يَحسبَنَ الذينَ كَفَروا انمَّا نُملي لَهُم خَيرُ لأنفسِهِم إنمَّا نُملي لَهُم لِيزدادوا إثماً وَلَهُم عَذابُ مُهينُ)(74)، ومن ثمَّ يكون الجحود والتمرّد له آثار نفسية وتربوية في حياة الإنسان، حيث سيزيده جحوداً وبعداً عن اللّه تبارك وتعالى.

الخلاصة

من خلال دراسة هذه المقاطع الشريفة الثلاثة، يمكن أن نحدّد اُموراً ثلاثة عامة هي:
1 - ان هذه المقاطع تترابط بعضها مع بعضها الآخر سياقياً.
2 - وانّها بمجموعها تشكّل صورة كاملة لقضية واحدة هي مسيرة الإنسان منذ بدايتها وأهدافها وحتى نهايتها.
3 - وانّها تحتوي على مجمل المفاهيم والمعاني الاساسية التي يتضمّنها الدين الإسلامي والقران الكريم.

پی نوشت ها:

(1) الحمد : 2 - 4.
(2) السجدة : 7.
(3) التغابن : 3.
(4) الاسراء : 110.
(5) الحشر : 24.
(6) البقرة : 138.
(7) المؤمنون : 14.
(8) الزمر ة 23.
(9) الفرقان : 33.
(10) التين : 4.
(11) المائدة : 17.
(12) الاحزاب : 17.
(13) يس : 82.
(14) يونس : 99.
(15) الشعراء : 4. (16) العنكبوت : 53.
(17) الشورى : 14. (18) نوح : 4.
(19) الكهف : 58.
(20) الزمر : 53.
(21) هود : 119. (22) السجدة : 13.
(23) الاعراف : 36. (24) غافر : 60.
(25) الزمر : 72. (26) النساء : 48 و116.
(27) لقمان : 13. (28) غافر : 52.
(29) مفاتيح الجنان: 66 .
(30) يوسف: 87. (31) الزمر: 53.
(32) الاعراف: 99. (33) يوسف: 107.
(34) النازعات: 40. (35) الاسراء: 57.
(36) الحمد: 5 .
(37) مريم: 93. (38) الرعد: 15 .
(39) الحج: 18 .
(40) النحل: 40 . (41) يس: 82 .
(42) البقرة: 185 . (43) المائدة: 6 .
(44) قد يشترك الجن مع الانسان في هذه الخصوصية بمستوى ما باعتبار امتلاكه للارادة وأنه مكلف كما يفهم من بعض الآيات الكريمة.
(45) الاباحة والحلية قد تعبّر عن مصلحة ايضاً في اطلاق العنان لانسان ومنحه الحرية فاذا تطابق سلوك الانسان مع الاباحة والاطلاق والحرية تحقق التكامل بخلاف ما اذا الزم نفسه ببعض الالتزامات، كما في الرهبانية المذمومة فإنه لا يتكامل بهذا الالتزام.
(46) الزمر : 2 - 3. (47) الزمر : 11.
(48) الزمر : 17 - 18.
(49) البينة : 5. (50) غافر : 65.
(51) النساء : 146.
(52) ق : 16. (53) الواقعة : 85.
(54) الزخرف : 80. (55) العصر : 3.
(56) آل عمران : 104. (57) الحج : 41.
(58) التوبة : 71.
(59) يس : 82. (60) التكوير : 29.
(61) الكهف : 23 - 24.
(62) الحمد : 6 - 7.
(63) الحج : 5.
(64) القصص : 56. (65) البقرة : 272.
(66) الانعام : 88.
(67) مريم : 76. (68) محمد : 17.
(69) البقرة : 143. (70) النحل : 90.
(71) المائدة : 42.
(72) الروم: 30 .
(73) البقرة: 260 .
(74) آل عمران: 178 .

مقالات مشابه

نگاهی به تفسیر فاتحة الکتاب فخر رازی

نام نشریهآینه پژوهش

نام نویسندهسیدرضا باقریان موحد

تفسیر القرآن بالقرآن فی سورة الفاتحة

نام نشریهالمعارج

نام نویسندهجعفر شرف‌الدین

الآیات المتشابهات فی سورة الفاتحة

نام نشریهالمعارج

نام نویسندهجعفر شرف‌الدین

التفسیر بالمأثور فی سورة الفاتحة

نام نشریهالمعارج

نام نویسندهجعفر شرف‌الدین

چهل نكته از تفسير سوره حمد

نام نشریهبینات

نام نویسندهمرتضی حائری

فی رحاب سورة الفاتحة

نام نشریهمجله رسالة القرآن

نام نویسندهسامی الخفاجی