مدخل جديد لتفسير القرآن

پدیدآورغالب حسن

تاریخ انتشار1388/11/21

منبع مقاله

share 270 بازدید
مدخل جديد لتفسير القرآن

غالب حسن
القسم الاول : التفسير المعادلاتي

الفكرة

تَسود القرآن الكريم مجموعة كبيرة من المعادلات، هذه المعادلات ذات طبائع متعدّدة متكثرة، فهناك المعادلة الكونيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة والسياسيّة، فالقرآن كثيراً ما يربط بين عنصرين على نحوٍ ما. وهذا هو مقصودنا بالمعادلة.
قال تعالى : (لئن شكرتم لازيدنكم). قال تعالى : (ان تنصروا اللّه ينصركم). قال تعالى : (ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار).
فنحن هنا امام علاقةٍ ما بين موضوعين (الشكر وزيادة النعم، الركون الى الطغاة والمصير الجهنمي...)، أي اننا في مواجهة معادلة. وتتحدّد هويّة المعادلة من الطبيعة العامّة للعناصر المكوّنة لها. كما ان طبيعة العلاقة لها دور في تحديد هذه الهويّة او الصيغة.
المفسرون القدامى والمحدثون كثيراً ما يلتقطون هذه المعادلة او تلك، وكثيراً ما يعملون مشكورين على تشخيص العلاقة بين الشقين، سببيّة ام شرطيّة ام.. ام..، وقد قرّبوا بذلك فهم كتاب اللّه تعالى للناس وزوّدوا الفكر الانساني بمادّة قرآنيّة غزيرة رائعة. ولكن في الحقيقة ان هذا لا يكفي، ذلك ان المحاولة هذه تعبر عن جهد منصب على المعادلة كهيئة قائمة بذاتها، تتجسد بين شقين، والجهد المذكور يتردّد في فضاء معادلة مُسمّاة بموضوعيها في حين ان القضية يجب ان تتخذ طابع المنهج ثم نفسّر المعادلة على ضوء هذا المنهج ذلك ان كل معادلة مجموعة من المقتربات والنقاط والاشارات. للمعادلة طرفاها، وللمعادلة جذرها، وللمعادلة شروطها، وللمعادلة نتائجها. كذلك للمعادلة معاملها. والمعادلة قد ترجع الى ما هو اوسع منها... وهكذا... وعليه : يمكن ان نقول : ان هناك ما نستطيع ان نعنونه ب(التفسير المعادلاتي للقرآن الكريم).

المنهج

نحاول الآن ان نطرح بعض معالم هذا المنهج عبر نقاط متسلسلة، وهي :
أولاً : تحديد المعادلة بطرحها الاوّلي، أي تشخيص الآية ذات البنية المعادلتية المثبتة بطرفيها او شقيها او عنصريها... او كما قلنا : ان هذه المعادلة قد تكون ذا منحى عقيدي او ذات رؤية اجتماعيّة او طرح اقتصادي... وفي الواقع ان اكثر من معادلة ومعادلة في الخطاب القرآني قد تتجسّد في اكثر من آية واخرى، ومن المستحسن هنا اختيار الآية الواضحة البيّنة. ولا مانع بطبيعة الحال درج الآيات الاخرى حَسب تسلسل درجة الصراحة وعمق الانكشاف.
ثانيا : نحاول جهد امكاننا اكتشاف (مُعزّز) للمعادلة المثبتة، وذلك مثلاً - اذا وجدت آية تعقد علاقة اثبات بين ضدي موضوعي المعادلة (الآية) التي هي محل التجربة والدراسة والنظر، فالقرآن الكريم يبني علاقة اطراد بين الشكر وزيادة النعم، فهل هناك نص قرآني يوضح هذا الاطراد بين كفران النعمة والقحط مثلاً؟.
ثالثاً : لا بد ان نقوم بعملية تعريف قرآني دقيق لكل موضوع من موضوعي المعادلة القرآنيّة. بل هو الخطوة الثانية بعد تشخيص المعادله. وفي اعتقادي ان هذه الخطوة في غاية الضرورة لامكان التسلسل المنطقي الصحيح لفهم المعادلة كفضاء وبناء ونتائج.
ورابعاً : العودة بالمعادلة الى معادلة اوسع، أي نحاول ان نجعل منها مصداقاً او فرداً لبُنية معادلاتيّة ذات مجال اشمل ومضمار اكثر مَدىً.
خامساً : تثبيت جذر المعادلة المسؤول الحقيقي عن انبعاثها وتأسيسها وصيرورتها، ومتابعة حركة المعادلة على ضوء الجذر المؤسّس.
هذه اهم خطوات المنهج. وهي خطوات عامّة. وقد لا نجد كل فقراته موقعاً تطبيقياً في العمليّة. أي في تفسير المعادلة منذ طرحها وحتى اكتشاف جذرها المكوِّن.

نموذج تطبيقي (1) معادلة اخلاقية

قال تعالى : (لئن شكرتم لازيدنّكم).
هذه الآية الشريفة عبارة عن معادلة واضحة. لها طرفان مشخّصان بصراحة، هما على الترتيب:

1 - الشكر.

2 - زيادة النعم.

وتقرير المعادلة هو:
ان الشكر يؤدي الى زيادة النعم، وبعبارة اكثر انسجاماً مع فكرة المعادلة، ان هناك علاقة اطرادية بين الشكر وزيادة النعم. وهو ما يعرف بلغة الرياضيات (المعادلة الأُسيّة)، ومفادها ان أي تغيير طفيف في احد طرفي المعادلة يستتبعه ازدياد مطّرد في الطرف الثاني.
اذن،هذه المعادلة تتقوم بطرفيها من جهة وبطبيعة العلاقة المنعقدة بين هذين الطرفين من جهة اخرى.
وقبل ان نلج في تتبع خطوات العمل. علينا ان نعرف امرين:

اولاً: ما هو الشكر؟

ثانياً: ما هي النعمة؟

الشكر في نطاق الفكر الأخلاقي الاسلامي تصور النعمة واظهارها، ويعود في الأساس الى اصله اللغوي الذي هو (الثناء) باللّسان على انسان بمعروف يُوليه كما في معجم مقاييس اللغه. وكما في فروق اللغة: الشكر: هو الاعتراف بالنعمة على جهة التعظيم للمنعم. وعلى هذا الاساس وبلحاظ مجموعة مقتربات لا مجال لبيانها هنا، فان الشكر في فكرنا الاسلامي على ثلاثة مستويات:

المستوى الأول:

الثناء القولي، المدح والإطراء وربما الاعتراف باللّسان، وفي ذلك قوله تعالى: (اشكر لي ولوالديك).

المستوى الثاني:

ابراز النعمة واظهارها للعيان بالمستوى الذي يبُدي نعمة اللّه للخارج والعيان (وأمّا بنعمة ربك فحدّث).

المستوى الثالث:

العمل بتعاليم واوامر المنعم، طاعته والسير في فلك ارادته التشريعيّة والاخلاقية والقانونية، وهو - كما يبدو - مفاد قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكراً).
هذه صورة موجزة مكثفة عن معنى الشكر في القرآن الكريم. شكر اللّه تعالى، ونكتفي بهذا المقدار السريع لأنه كمدخل وليس كوضوع.
اما النعمة فهي الحالة الحسنة في اللغة، والنُّعماء بازاء الضراء. والنُّعمى نقيض البؤس، والنّعمة في القرآن الكريم وبلحاظ نسبتها الى اللّه هي هذه الخيرات والبركات التي يزخر بها الوجود، (وان تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها). ومنها نعمة الايجاد والحياة بكل ما يعنيانه من مفردات ودلالات. ومنها نعمة الايمان والاسلام. ومنها نعمة العقل والبصر والسمع... الخ. وهي كلها من اللّه وبفضله ورحمته جلّ وعلا.

والى هنا استفدنا ما يلي:

ان شكر اللّه تعالى، لساناً او اظهاراً او عملاً... يؤدي الى اطّراد النعم واتساعها وتكثرها وتولّدها، وبطبيعة الحال، ان هذا الاطراد يتأثر بمستوى الشكر وبسعته وكمّه وعمقه، فالشكر على مستوى الاظهار أدعى في مدى التأثير من الشكر على مستوى اللّسان، مثلاً، والشكر الذي هو افراز المستويات الثلاثة في آنٍ واحد... اكثر فاعليّة في تحقيق النتائج المترتبة من الشكر الذي هو على مستوى واحد. وهكذا.
اعتقد من هذا العرض السريع المتلاحق الموجز تكون المعادلة قد اكتسبت شيئاً من الوضوح النسبي الذي يؤهلنا للدخول في المرحلة التالية.
* * *
هل هناك ما يعزّز هذه المعادلة في القرآن الكريم؟
في الحقيقة: من السهل جداً العثور على مثل هذا الدليل المعضّد او هذا المعزّز من تضاعيف الحظاب القرآني الكريم.
قال تعالى: (وضرب اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).
والكفر بنعم اللّه هو عدم اضافتها للّه جلّ وعلا بالشكر لساناً او طاعة او اظهاراً كل على انفراد او معاً، باي صورة كان ذلك. ومن الواضح جداً العلاقة القوية المتينة بين موضوعي المعادلة المطروحة:

*الكفر بالنعمة.

*الجوع والخوف.

وكما هو معروف ان كفران النعمة ضد ذكرها او بالأحرى الشكر عليها، كما ان زيادة النعم على الضد تماماً من الجوع والخوف.
اذن هناك ما يُعزز المعادلة التي هي موضوع النموذج (الشكر - اطراد النعمة)
وذلك من خلال العلاقة الثابتة بين نفي العنصرين او الشقين (الكفر - الجوع والخوف). ويمكننا ان نعثر على اكثر من آية في سياق هذا التعزيز.
هنا سؤال... ولماذا لا نجعل من معادلة هذه الآية هي المشروع، وقوله تعالى: (لئن شكرتم لازيدنكم) هي المعزّز؟. وهو سؤال مُسوغ ومبّرر ومعقول. ولا يوجد أي مانع من القيام بهذه المحاولة كما انها لا تضرّ بالفكرة على الاطلاق، والموقف متروك لذوق الباحث والدارس، ولكن اعتماد الايجاب أولى من السلب في مثل هذه المجالات.
اذن الى هذه اللحظة نكون قد انجزنا الخطوات التالية:
* تشخيص مشروع المعادلة: (لئن شكرتم لازيدنّكم). (الشكر - الزيادة في النعم).
* تعريف شقي المعادلة: (الشكر: الثناء، الاظهار، الطاعة، النعمة: الخير والبركة...)
* العثور على المعزّز: (وضرب اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون).
(كفران النعمة - الجوع والخوف).
* * *
وكان الآن طرح السؤال التالي: -
هل هناك معادلة اوسع بحيث تختص وتتضمّن معادلة المشروع؟!
وفيه الواقع على مستوى قوله تعالى: (لئن شكرتم لازيدنكم).
والمتمثل بالرسم (الشكر - الزيادة ) يمكن ان يندرج في اطار قوله تعالى في محكم كتابه: (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب).
كيف؟ ان الشكر وبأيّ مستوى من المستويات فرد من افراد الذكر، او هو ذكر على ايّ حال، ذكر لساني او عقلي، بل لعلّه من افضل وأشرف انواع الذكر الواردة في الشرع الاسلامي او الفكر الفلسفي.
وان اطمئنان القلوب يتجسّد في قضايا كثيرة، ولعلّ من هذه القضايا هو زيادة او اطراد النعم. قال تعالى: (وانه لحب الخير لشديد). وقال تعالى: (وتحبون المال حبّاً جما). وقال تعالى: (... فليعبدوا ربّ هذا البيت، الذي اطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف).
فان وفرة النعمة وتناميها وتكثرها يَسرّ القلوب ويبعث الاطمئنان في صميم الذات الانسانيّة. وهي مسألة حسيّة متوفرة في داخل سلوكنا وتصرّفاتنا، كما ان تراجع النعم وانحسارها يبعث القلق والهم والاضطراب.
اذن وتأسيساً على ما مضى يمكن ان نتصور اندراج المعادلة (لئن شكرتم لازيدنكم) ضمن اطار اشمل واوسع وارحب، هذا هو قوله تعالى: (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب).
لنقرأ:
قال تعالى: (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب).
قال تعالى: (لئن شكرتم لازيدنكم).
وبهذا نكون قد انجزنا اربع خطوات...
الخطوة الاولى: طرح المعادلة.
الخطوة الثانية: التعريف بالشقين.
الخطوة الثالثة: عنصر التعزيز.
الخطوة الرابعة: الاطار الاوسع (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب).
* * *
ولكل معادلة جذرها الذي تنشأ منه اساس تكويني وتأسيس تنبع من داخله وتستمد منه حيويتها وزادها. فالمعادلة المطروحة (لئن شكرتم لازيدنّكم) ترتكن الى جذر تأسيسي حيوي ناشط فاعل، له القابليّة على ترسيم وصياغة سلسلة من المعادلات الضخمة.
قال تعالى: (فاذكروني اذكركم). هذا هو المنشأ الاولي، الجذر البعيد، القاعدة القصيّة، المنبع الحيوي، انه ذكر اللّه تبارك وتعالى.
ومن تقدير الرحمة ان تقترن المعادلة المشروع بالجذر على نحو لاصق وتابع ومتفرّع.
قال تعالى: (فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).
قال الطبرسي: الذكر: حضور المعنى للنفس وقد يكون بالقلب وقد يكون بالقول، وكلاهما يحضر به المعنى للنفس.
وقال ايضاً: قيل معناه: اذكروني بطاعتي اذكركم برحمتي... عن سعيد بن جبير رحمه اللّه.
وقيل معناه: اذكروني بطاعتي اذكركم بمعونتي... عن ابن عباس.
ومهما يقال، فان مدى الجذر اوسع ممّا قاله سعيد ومما قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: اذكروني بالاستغفار اذكركم بالتوبة. اذكروني بالشكر اذكركم بالاستزادة. اذكروني بالدعاء اذكركم بالاستجابة... هذا هو مدى الجذر.
نحن هنا نقوم بعمليّة هي اشبه بعمليّة الاشتقاق الرياضي. معرفة معادلاتيّة تتولد بعضها من بعض. لنقرأ هذا المسلسل القرآني الرابع:
(اذكروني اذكركم...). (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب...). (لئن شكرتم لازيدنكم...).
واذا اردنا ان نوزّع هذه الآيات ضمن عناوين نظميّة مؤسسّة. يمكن ان نطرحها وفق التصور التالي:
اولاً: الجذر: فاذكروني اذكركم ... المفسِّر.
ثانياً: المجال: الا بذكر اللّه تطمئن القلوب... الاطار الاوسع.
ثالثاً: المصداق: لئن شكرتم لازيدنكم... المعادلة المشتقّة.
وبهذا نكون قد انجزنا الخطوة الخامسة التي هي: (تعيين الجذر المؤسِّس).
وفي الواقع لم يكشف الجذر المذكور بعمليّة تفسير اوّلي سريع، بل امتدّت صلاحيته لمعالجة اقصى اطراف المعادلة/ المشروع. اقصد طرف الاستزادة، فان الجذر قد احتاط لها بمبرر ميتافيزيقي يرتبط بالغيب ارتباطاً سببّياً وثيقاً. قال تعالى: (... ولذكر اللّه اكبر).
ان انعكاسات ذكر اللّه تعالى على الذاكر في مدياتها وَموجها تتجاوز الى حدٍّ كبير كل مُعطيات الذاكر بحق اللّه جلَّ وعلا، بل لا توجد هناك مناسبة للمقارنة او الموازنة بين العطاءين أو الأثرين، بل المقارنة منتفية، لأن معطيات أي عبادة انسانية تعود على العابد نفسه وليس لها ايُّ عائد على الله تبارك وتعالى... وبهذا نقتض نقطة التفسير في الجذر للمعادلة المشروع في اقصى طرفيها، ذلك ان ذكر اللّه تعالى يتجاوز في استدعاء رحماته وعطائه ما ينتفي معه كل عطاء من جهد الذاكر الى جانب اللّه سبحانه. فالانسان عندما يشكر اللّه انما يذكره. وجزاء من اللّه على ذلك يذكر هذا الشاكر برحمته على مديات غير محسوبة ولا محدودة. قال تعالى: (وعطاءً غير مجذوذ).
* * *
ترى هل هناك معادلة بلا شروط؟
بطبيعة الحال... لا.
كل معادلة تتحقق على متن الفعل بشروطها. والمعادلة/ المشروع لها شروطها الخاصّة التي تنعدم بانعدامها. ويبدو ان اهم شرط في هذا الصدد هو الوعي، ان يعي الانسان الشكر. ان يفقهه بِسِرِّه العميق وبجوهره الذي يتميز به، ثم ان يكون على دراية راقية بمفهوم النعمة، ودراية مداها وانواعها. وقد صوّر أهل البيت عليهم السلام العلاقة الواعية بين الشكر والنعمة في اطار رائع من المعرفة الدقيقة الواعية.
يقول الامام العسكري عليه السلام: (لا يعرف النعمة الاّ الشاكر ولا يشكر النعمة الاّ العارف).
وقبل ان اختم هذا البحث السريع يحلو لي ان ادرج هنا المسلسل السابق على لسان أهل البيت عليهم افضل الصلوات:
* شكر النعمة اجتناب المحارم وتمام الشكر قول الرجل: الحمد للّه رب العالمين. الصادق عليه السلام.
* من شكر النعم بجنانه استحق المزيد قبل ان يظهر على لسانه. امير المؤمنين عليه السلام.
* ان اللّه منّ على قوم بالمواهب فلم يشكروا فصارت عليهم وبالاً.
* لا يعرف النّعمة الاّ الشاكر ولا يشكر النعمة الاّ العارف. الامام العسكري عليه السلام.
(واذ تأذنّ ربُكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد).
نموذج تطبيقي (2) معادلة إجتماعية
قال اللّه تعالى: (ذلك بان اللّه لم يك مغيّراً نعمة انعمها على قومٍ حتي يغيروا ما بأنفسهم وان اللّه سميع عليم). والمعادلة واضحة، علاقة بين مصير النعمة من جهة وحقيقة المحتوى الداخلي للانسان من جهة اخرى. علاقة تأثير متبادل.
قال الطبرسي: معناه: بان اللّه لم يكن يزيل نعمةً انعمها على قومٍ حتى يتغيروا هم عن أحوالهم المُرضية الى احوال لا يجوز لهم ان يتغيروا اليها. وهو ان يستبدلوا المعصية بالطاعة وكفران النعمة بشكرها.
هذه هي المعادلة اذن... طرفان والعلاقة... معادلة كاملة. متوازنة، متعادلة.
ترى هل هناك ما يعزّز هذه المعادلة؟.
قال تعالى: (لقد كذبت رُسُل من قَبلك فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى اتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات اللّه ولقد جاءك من نبأ المرسلين).
الصبر تعبير عن هيئة ذاتية نفسّية تجسّد الايمان والصدق مع اللّه والمبادئ، أي عبارة عن محتوى داخلي ذي سياق عقيدي وفكري مشخصٍ. وذي اتجاه مبدئي حازم وحاسم لا يتزعزع، واذا كان هذا هو المحتوي الداخلي، فإن نصر اللّه هو النعمة التي ترتبت كجزاء على تلك المقدّمة. وبذلك تتحقق معادلة واضحة، وهي بلا ريب تعزّز المعادلة/ المشروع. ولو ان هذا الصبر تحوّل الى جزع وملل وضجر، لتغيّرت النتيجة، واتجهت اتجاهاً مُغايراً.

ترى هل هناك اطار اوسع؟

قال تعالى: (ان اللّه لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفهسم). فنحن بين يدي معادلة عريضة جداً، فان طرفيها يمكن التعبير عنهما برموز جبريّة كدوال، ولك ان تدرج تحت كل رمز ما تشاء من افتراض، سواء هذا الافتراض ينتمي الى الطرف الاول او الثاني.
*ترى هل هناك جذر مُفسِّر لهذه المعادلة عبر حركتها؟
قال تعالى: (ونفسٍ وما سوّاها* فألهمها فجورَها وتقواها* قد أفلح من زكّاها* وقد خاب من دسّاها).
*ما هي ظروف واجواء تحقق المعادلة؟
الإصرار على الخطأ وعدم التبصّر وغلق الاسماع عن آيات الهدى والرشاد، فان مثل هذه الاجواء المشحونة بالعداء للحق والحقيقة توفر عوامل تحقق المعادلة في صميم الواقع. ولعل قوم نوح يجسّدون مثلاً تطبيقاً حيّاً في هذا المجال. وكل قومٍ يقتفون ذات السلوك وذات السيرة. قال تعالى: (فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها).

نموذج تطبيقي (3) معادلة حضارية

من المعادلات الماضية الراسخة في تركيبة وذاتيّة الفكر الاسلامي المستوحى من كتاب اللّه تلك العلاقة الضروريّة بين نوع الكلمة والوجود، لأن الكلمة في قاموس القرآن وبالتحليل الدقيق عبارة عن (فعل)، عبارد عن ممارسة حيّة تحملُ في طيّها البعيد صبغة قائلها او بالأحرى فاعلها، فالكلمة ليست كياناً لغويّاً مجرّداً. وانما هي تجسّد ارادة. والارادة تفرز اثراً. والاثر يخلق نظيرهُ على امتداد طاقته وحيوتيه وقدراته.
تأسيساً على ما مضى تتكون لدينا معادلة. تكون فيها (الكلمة) المعادل الموضوعي (للفعل) وهو ما تقرأه في كتاب اللّه عز ّو جل. يقول تعالى: (كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء* تَؤتي اكلها كل حين...).
وفي الحقيقة ان المعادلة واضحة في الآية الى درجة الاشراق. وبودي ان اقول ان (ك) هنا ليست للتشبيه المجازي بقدر ما هي لتجسيد الواقع او لتجسيد الكلمة كواقع، هذا الواقع يتمثل في النهاية فعلاً سارياً ماضياً منساباً على مدى استعداده الفذ المستمد من نوع الكلمة وهويتها.

ان الكلمة الطيبة كفء الفعل الخيّر.

هذه هي المعادلة في صورتها الاولى...

الآية الشريفة التي تطرح هذه المعادلة تلحقها بالمعزّز الذي من شأنه يفعّل المعادلة في تضاعيف الاعتقاد وبُنيات التصور. يقول تعالى (كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء* تؤتي اكلها كل حين باذن ربَّها ويضرب اللّه الامثال للناس لعلّهم يتذكرون* ومثلُ كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار).
والمثل المضروب هنا ليس وسيلة تعليمية ولا توضيحيّة بل هو مثل يرتبط بالتجسُّد الفعلي، المثل الشاخص الحاضر الملموس المتوثب.
اذن وبمتابعة السرد السابق نكون قد طوينا مرحلتين بنجاح، تأسيس المعادلة واكتشاف الداعم المؤكّد او المعزّز... ولكن اين يكمن الإطار الاوسع؟ اين هي المعادلة الاكبر؟
قال تعالى : (فأمّا الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض...)... حقاً، انها المجال الذي تجد فيه المعادلة السابقة مكمنها المناسب وحاضنها الحقيقي وراعيها الصادق. فالكلمة الطيبة باعتبارها فعلاً خيراً انما هو من مصاديق ما ينفع الناس، ولنا ان نستوعي هذا التجاذب الحق بين (الاصل الثابت في الارض والفرع الممتد من جهة وهذا المكوث في الارض) فان المعادلة الأوسع قد غذت المعادلة /المشروع بكل روحها وعصارتها وجوّها، اعطتها هويتها الراسخة. وهكذا نكون قد ظفرنا بالخطوة الثالثة... وليس من العسير التقاط الجذر المؤسس الذي هو البداية.
ان الجذر المؤسّس لهذه المعادلة هو الجذر المؤسّس لكثير من المعادلات التي تسود الكتاب العزيز. انه الجذر الذي يؤكد :
(أصالة الحق في الوجود)... قال تعالى : (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازلَ لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق اللّه ذلك الاّ بالحق يفصّل الآيات لقوم يعلمون).
قال تعالى : (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)، (الم تر أن اللّه خلق السماوات والارض بالحق).
واصالة الحق فيما نحن فيه تعني : ان كل ما يتطابق وينسجم مع قوانين الكون والحياة يبقى ويستمر ويعطي ويثري. وذلك بديهي واضح، لانه يجد بسهولة اجواء تحققه ونموه وتطوره. وكل ما هو خلاف هذه القوانين يهلك ويَبور ويتداعى. قوانين الوجود تتظافر باتجاه الحفاظ والديمومة والعطاء، و لولا هذه الحقيقه لانتهى كل شي منذ امدٍ بعيد. وحتى اذا طرأت على الوجود سلطنة الشر والخراب، فانها سلطنة عابرة تزول وتعود قيادة الخير لتستلم ازمّة الكون. وها نحن نسمع بملء آذاننا ان الطبيعة راحت تنتقم من مخربيها ومدمّريها، وصيحات الانذار اخذت تجلجل في كل انحاء العالم من اجل انقاذ الحياة... اذن الحق هو الأصيل... وما يمكث في الارض تعبير عن هذا الحق. وبالتالي يفسِّر بشكل طبيعي العلاقة الحيّة بين الكلمة الطيبة (الفعل الخير) والوجود الرحيب. ويتعين (أذن اللّه) شرط كوني لسريان هذه المعادلة وتحققها.
هكذا نكون قد اكملنا المشوار : المعادلة المشروع، الداعم، المعزّز، الاطار الاوسع، الجذر المؤسس، الشرط الضروري.

البناء الفوقي

هذه ثلاثة نماذج سريعة طرحناها لتطبيق المنهج، وفي القرآن الكريم عشرات بل مئات الشواهد او المعادلات التي تخضع لهذه المسيرة من الفهم والتفسير. الشيء الذي نريد الإلماع اليه هنا... ان الدارس يستطيع ان يؤسِّس او يشكل محطاتٍ ضخمة بين خطوات المنهج، ومن خلالها يقوم بعمليات انتاج معرفي غزير وثري، فعلى اعتاب كل خطوة وبين كل خطوة واخرى تستقر حقائق قرآنية تتصل بكل جوانب الحياة، حقائق رائعة ونيرة، ومنها يمكن ان ننسج قوانين واستحقاقات ومعالم وتصورات وافكاراً ومفاهيم.
ولنضرب هنا مثالاً سريعاً، لقد استعرضنا معادلة الشكر واطراد النِّعم، وتسلسلنا بهدوء من المعادلة الى جذرها المؤسِّس... ولكن على اعتاب هذه المسيرة. يمكننا ان نسجّل الملاحظات التالية :
* ان الشكر اجمل وأهم وأخطر عمل عبادي في نطاق الممارسة الاسلاميّة الاخلاقيّة.
* ان الشكر من اسباب التواصل والتقادم على صعيد الحياة بل الوجود بمفهومه المعطاء.
* ان الشكر على مستوى الطاعة من ابرز معالم السلوك النبوي الكريم.
* ان الشكر ضمن المعادلة السابقة (الشكر الزيادة) ليس هو الشكر الفردي، لان المعادلة لا تهندس لحياة شخص ومصير فرد بل لتاريخ مجتمع بدلالة الجمع، أي ان الآية تطرح لنا قانوناً تأريخياً وسنّة حضاريّة، يتحدّد بموجبها بعض مسارات التاريخ الانساني وقد ظلم المفسّرون الآية الشريفة عندما تعاملوا معها من منطلق الاحساس الفردي الطاغي، ومرد هذا الخطأ ليس هو فقدان الوعي بجوهر اللغة بل هو فقر التجربة الحياتيّة التي خاضها المفسّر عبر عمره الطويل. وكثيراً ما نصادف مثل هذا الاخفاق في فهم القرآن الكريم. ولنا في هذه القضية موضوع طويل.
* ان الشكر انما يؤدي هذا الدور لسببين رئيسيين : الاول : سبب مادّي يتصل بالجانب التطبيقي لشريعة اللّه عز وجل، والشريعة في دور التطبيق عمليّة خلق وتجديد وبعث واحياء، أي بناء بكل معنى الكلمة. الثاني : رحمة اللّه جلّ وعلا التي وعدها الشاكرين من الامم والشعوب والمجتمعات. والشريعة في النتاج الأخير هي اوضح مصاديق هذه الرحمة، ولذا فان الجذر المؤسّس يتجاوز المادّة ليتواصل مع الغيب المطلق.

ترى ماذا نسمّي هذه الاستحقاقات؟

انها ليست معلومات لان المعلومات تُلقى بين يدي القارئ او السامع من طرفٍ آخر. ولا هي تفسير لان التفسير توضيح لمبهم او غامض... انها انتاج معرفي.
ان التسلسل المعادلاتي الذي مرّت بنا بَعضُ امثلته عبارة عن تفسير وفق منهج مُعين الخطوات، لم يأتِ بشي جديد سوى إِظهار التماسك القرآني الفذ، وهو تفسير يخلق حالة من الاطمئنان لدى المسلم في اطّلاعه على منبع المعادلة وكيفيّة شأنها وجريانها. ويضعه في صورة واضحة، امّا هذه اللقطات فهي البناء الفوقي، انّها المعرفة القرآنيّة... فنحن نستلم المعلومات ونتفهم المنهج، ونطلع على التفسير لنخلق المعرفة، لان المعرفة عبارة عن تركيب جديد واكتشافات جديدة من معلومات مُعطاة، بعد اعمال التجريد والفكر والذوق والثقافة. ونحتاج الى عالم فذ يلتقط المعارف من كل مستوى ومن كل خطوة ثم يدمجها في مركب معرفي واحد... أي يسير بنا من التفسير الى انتاج المعرفة.

القسم الثاني : ذكر الله في القرآن

اولاً : مداخل سريعة

مدخل رقم (1)

ذكرتُ الشيء خلاف نسيته، ثم حُمل عليه الذكر باللّسان. التذكير : الوعظ، والذكر أيضاً : الشيء يجري على اللّسان.
قال الفراء : الذكر: ما ذكرته بلسانك وأظهرته، والتذكّر بالقلب. الذكر: العلاء والشرف وان تذكر شيئاً : تنطق به او تتحدَّث عنه او تستحضره. وقد يطلق الذكر ويراد به الحديث أو القصة واحياناً الكتب السماوية كالقرآن وغيره. الذكرى : استحضار الشيء في القلب والمعلم به.
هذا هو الذكر في اللغة. ولكن استعراض استعمالات المادَّة، والمقارنة بينها يفيد ان الذكر هو : (الاستحضار، الوعي، الحفظ) وذلك في قبال (الغياب، النسيان، الغفلة).
نتحدّث عن الذكر في القرآن الكريم بلحاظ هذه الآفاق من المعنى، أي الاستحضار، وبذلك يتضاد مع الغياب، والوعي وبذلك يتنافى مع الجهل والغفلة والحفظ وبذلك يتقاطع مع النسيان.

مدخل رقم (2)

ذكرُ اللّه تعالى : استحضارهُ في الفكر، في الذهن، واذا قيل ان معناه : استحضاره في القلب فهو لا يخرج عن دائرة (الفكر - الذهن)، باعتبار انه عمليَّة فكريّة، والقلب في القرآن كثيراً ما يعني العقل في حالة تفكر او العقل في حالة وظيفة!! وسواء كان الذكر هذا مع اللفظ او بدونه.
ذكر اللّه : استحضاره عقليّاً، ذهنيّاً، باعتباره جلَّ وعلا خالقاً، رازقاً، رحيماً... الخ والسؤال المطروح، كيف تتم عمليَّة الذكر هذه؟

الطريقة الأولى

يتم استحضار اللّه تبارك وتعالى عن طريق او بواسطة استحضار نعمه التي يزخر بها الوجود العظيم، فهذا الاستحضار يقود بالتالي الى الوعي باللّه جلَّ وعلا.
قال تعالى : (يا ايها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم). (أَ وَ لا يذكر الانسان انّاَ خلقناه من قبل ولم يك شيئا). (واذكروا اذ كنتم قليلاً فكثركم).
فالامر هنا، استحضار نعم اللّه، أي وعي عظمتها وجمالها ونفعها واهميتها. ومن ثم معرفة خالقها وبارئها جلَّ وعلا. وقد يُشفع هذا الوعي بذكر لساني خاشع من تسبيح وتحميد وتكبير.

الطريقة الثانية

يتم استحضار اللّه تعالى في الذهن والفكر بواسطة استحضار آياته الكونية المبثوثة في هذا العالم المدهش. أي ان التفكر في الآيات يؤدي الى استشعار الوجود الالهي عن وعي وعلم، وكل ذلك مصحوب بالخشوع والخضوع والإنابة.
قال تعالى : (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). (وما ذرأ لكم في الارض مختلفاً الوانه إنّ في ذلك لآية لقوم يذكرون). ان الاستحضار هنا عمليَّة فكرية جادَّة، تستهدف التعرف على اللّه، خالق هذا الكون ومسيّره.

مدخل رقم (3)

قال تعالى : (واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصاً وكان رسولاً نبيا). (واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد). (واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار).
هذا النوع من (الذكر) موجَّه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويتلخص في ضرورة استحضار الجوانب المشرقة في جهاد الانبياء عليهم السلام الذين قادوا التجربة الانسانية عبر مسيرتها الطويلة الشاقة. ذلك من اجل تقوية قلب الرسول من خلال استيعابه للدروس الرائعة التي افرزتها حياة هؤلاء العباد الصالحين.

مدخل رقم (4)

قال تعالى : (ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو اعجبكم اولئك يدعون الى النار واللّه يدعو الى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلّهم يتذكرون).
ان الآيات المبيّنة هنا عبارة عن (أحكام شرعيَّة) تتعلَّق ببعض جوانب الحياة الاجتماعية للانسان، وقد بيَّنها اللّه للناس (لعلَّهم يتذكرون)، أي يستحضرونها مع التبصر والتفكر والتدبر لما فيها من خير وصلاح. وكل آيات اللّه تعالى التشريعية تهدف بناء الحياة الانسانية الطيبة. قال تعالى : (ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث).
وبناءً على هدفيَّة الاحكام الشرعيَّة وغائيتها البناءة، فهي جديرة بالتبصر على ان تكون النظرة اليها شموليَّة، مترابطة، متفاعلة.

مدخل رقم (5)

قال تعالى : (وذكرهم بأيام اللّه). (نحن جعلناها تذكرة). (فذكر ان نفعت الذكرى).
الذكر هنا يفيد (الموعظة) التي من شأنها احياء القلوب والضمائر والنفوس، وقد ورد الذكر بهذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم (الحجر 6، 9 - النحل 43، 44 - القلم 51 - القمر 25).

مدخل رقم (6)

يأتي الذكر بمعنى الحكاية والقصَّة والحديث عن موضوعٍ ما. قال تعالى : (حتى احدث لك منه ذكراً). أي قصّة وخبراً. (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً) أي قصَّة وخبراً.

مدخل رقم (7)

ويأتي الذكر بمعنى الشرف. قال تعالى : (ورفعنا لك ذكرك).

مدخل رقم (8)

العلاقة بين الصلاة والذكر صميميَّة جوهريَّة، والقرآن الكريم يعرضها في ثلاث صور :
الاولى : تسمَّى الصلاة ذكراً لاشتمالها على الاذكار القوليَّة، كالتكبير والتسبيح والتهليل والاستغفار وغيرها.
الثانية : انها من مصاديق الذكر. لانها بمجموعها تمثل العبوديَّة الكاملة للّه تعالى.
الثالثة : ان تكون مقدمة للذكر.
قال تعالى : (واقم الصلاة لذكري).

مدخل رقم (9)

ويُسمَّى القرآن ذكراً. قال تعالى : (وقد آتيناك من لدنا ذكرا). (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم). (أو عجبتم ان جاءكم ذكر من ربكم).
وقد امر اللّه تعالى نبيه الكريم بالذكر في اكثر من آية. قال تعالى : (فذكر انما انت مذكر). جاء في هذا المعنى في الانعام (70) و ق (45) والذاريات (55) والطور (29)... وقد اختلف في المقصود... وفي البين ثلاثة آراء :

الاول : تبليغ الوحي.

الثاني : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث : تكليف مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والظاهر هو الثاني بدليل (فذكر ان نفعت الذكرى) و(سيذّكر من يخشى ويتجنبها الاشقى).
من السرد السابق يمكننا ان ندرج المقتربات التالية :
اولاً : ان المعنى الجوهري للذكر هو الاستحضار الذهني، واذا كان هناك ذكر لساني فلا بُدَّ ان تصاحبه عملية تفكر - كما سنرى.
ثانياً : يطرح القرآن الكريم طريقتين لذكر اللّه جلَّ وعلا، التفكر في الآلاء والآيات.
ثالثاً : يطلق الذكر في القرآن ويراد به احياناً :
1 - الموعظة الحسنة. 2 - الأحكام الشرعيَّة. 3 - الصلاة. 4 - القرآن الكريم. 5 - الشرف.
وفي الحقيقة ما يعنينا في الموضوع الذي نحن في صدده هو (المقترب الثاني)، أي استحضار اللّه في العقل / الذهن. واكثر المداخل الاخرى هي في خدمة هذا المقترب الأساسي، فان هذا الاستحضار هو الغاية من الصلاة والدعاء والقرآن والموعظة الحسنة، ولذا سوف ينصبُّ البحث عليه بالذات.
الذكر بهذا المعنى مشروع قرآني فكري معمَّق، وليس هو نحواً من أنحاء الوعظ العابر، أي مشروع بنائي، مدرسة. ولم يكن اشارة ذات بعد وعظي ونمطي تكراري، والوعظ لم يكن سوى احد المضامين الداخلة في تأسيس المشروع المذكور.
المداخل السالفة مجرَّد اشارات توضيحيَّة للدخول في صميم الموضوع، ولكن هناك ملاحظات اخرى يُستحسن تجليتها مُسبَّقاً، تُعد هي الاخرى اشارات منهجيَّة ضروريَّة من اجل استيعاب الذكر في مفهومه الجوهري المطروح.

اولاً : أنواع الذكر

قالوا ان الذكر على نوعين :

الاول : استحضار اللّه في القلب / أي العقل، ويُسمّى عند البعض ب(الذكر القلبي) او الذكر (الذهني)، ومن الواضح ان عمليَّة التفكر غالبة على هذا النوع من الذكر.
الثاني : استحضار اللّه في اللسان، ويُسمّى عند البعض ب(الذكر اللساني). ويذهب المفسرون ان علامة هذا النوع من الذكر تعلقه بالاسم. قال تعالى : (واذكر اسم ربك وتبتَّل اليه تبتيلاً). (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً).
وقد تعدَّدت آراء المفسرين في معنى او بالاحرى في صيغ هذا الذكر وهويته، ومما يذكر في هذا الخصوص :
1 - مطلق الذكر اللّساني مثل التسبيح والتهليل والحسن والثناء.
2 - الدعاء.
3 - بعض الاذكار المخصوصة كالتسبيحات الاربع.
ويرجّح كثير من المفسّرين الرأي الاول، ونحن اذا راجعنا مواطن الذكر اللّساني في القرآن الكريم، سنجد انه ذو مكانة عباديَّة سامية، وذلك من خلال الملاحظات السريعة التالية :
اولاً : الامر المتكرر به، فان هذا التكرار دليل على الاهتمام والعناية، وانه من الشواهد الرئيسيَّة على ضرورته العباديَّة الربانية.
ثانياً : اقترانه ببعض الممارسات التعّبُديَّة الاساسية في الاسلام وذلك مثل التسبيح والتبتل وغيرهما.
ثالثاً : التوكيد على الاكثار منه. فقد ورد في هذا نص قرآني صريح. قال تعالى : (يا ايها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً...) (واذكر ربك كثيراً...). (واذكروا اللّه كثيراً لعلكم تفلحون). (وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيراً * ونذكرك كثيراً).
ولكن من المعروف في الأدبيات الاسلامية ان ذكر اللّه على اللسان دونما تدبر بعظمته وقدرته يعد مجرّد كلام فارغ، أي لا بد ان يصاحب هذا الذكر استحضار ذهني عميق بآلاء اللّه ونعمه. والا بماذا يتعلق هذا الذكر؟! وبهذا التقرير لا يختلف الذكر اللساني عن القلبي إلاّ بهذا الاعلان الصريح، وهذا التقييم ليس جوهرياً. لانه لا يمتلك اصالة الإثبات أبداً. انه تقسيم منهجي مؤقت، فالذكر بالنتيجة، وعلى ضوء الخطاب الاسلامي استحضار ذهني، قلبي، فكري للّه سبحانه عبر التفكر بآياته الكونية ونعمه العظيمة، والتمجيد والتسبيح والتكبير والتهليل والاستغفار، إنما هو تعبير مادِّي محسوس عن هذه العملية العقلية الداخليَّة، وتُسمى ذكراً على النحو المجازي، انها اشارة الى عملية اعمق منها وأدق.
الذكر : معرفة اللّه بخشوع وخضوع وإنابة، واحياناً يُعبر عن ذلك بصيغ لغوية معيَّنة، ذات قابلية على الاشارة الى تلكم المعرفة الفذَّة، وهي بلا ريب تعزّز الذكر وتؤكده وتعطيه المزيد من الحيويَّة والقوة. ان الذكر اللّساني انما هو ذكر عقلي (مُعلن).
ينتظم مشروع الذكر في القرآن الكريم مجموعة معادلات رئيسيَّة، والتدقيق في هذه المعادلات يكشف عن أساس وقاعدة، كما يشكل بالإنسان على قضاءات ونتائج والمطلوب هو الظفر بهذه المعادلات في بنيتها الجاهزة، كما ان الاحاطة الدقيقة بعناصر الاتساق والتجاذب بين المعادلة وقاعدتها وقضاءاتها يؤكد اعجاز هذا الكتاب المقدس.
الذكر ممارسة عباديَّة عميقة، مشروع عبادي يجسّدُ وعياً ومسؤولية ويترسم هدفاً مركزياً في حياة الانسان، ولهذا تتجاذبه عوامل رفع وطرد. والقرآن استعرض هذه العوامل. ولكن ليس بشكل خاطف، وانما ضمن مسلسل من المستويات والدرجات، لان مثل هذه الممارسة من الصعب جداً ان تدخل ميدان الحياة الانسانية من دون صراع، وهذا الصراع انما يكون في مستواها، والمطلوب استجلاء هذه العوامل ولو بشيء من السعة حيث سنلتقي بمنطق قرآني تترافد قوته الذاتية بشواهد المتانة الفكريَّة والعقليَّة.
شيء آخر نجده في مطاوي القرآن وهو يعرض مشروعه العبادي الفكري (الذكر)، ذلك هو الموقف السلبي من الذكر، ضمن سُلَّم متعانق المصير، فليس هو الموقف الواحد بل هو الموقف المتعدّد المواقع في درجاته وامكاناته.
وبناءً على كل هذا...
سنطرق موضوع الذكر في عدة مجالات ومن اهمها :
الاول : معادلات الذكر (ثلاث معادلات نموذجيَّة).
الثاني : عوامل الجذب والطرد.
الثالث : الموقف السلبي.

ثانياً : ثلاث معادلات رئيسية

المعادلة الأولى

بُنية المعادلة : الذكر يؤدي او يصوغ مجموعة نتائج مهمَّة على الصعيد النفسي والوجداني والعقلي بالنسبة للانسان الذي يمارسه بوعي وادراك، منها:
1 - الاطمئنان (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب).
2 - الوجل الذين اذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم).
3 - السجود ( انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا بها خرُّوا سجدا).
4 - الرقّة (ثم تلين جلودُهم الى ذكر اللّه).
هذه آثار يؤدي اليها الذكر، ذكر اللّه، انها الاطمئنان والخوف والسجود والرقة... ترى هل هي معاني متعدّدة، متنوّعة؟!
وهناك اكثر من تصور يطرح في هذا الصدد:
أولاً: ان آثار (الذكر) تتباين باختلاف الحيثية التي يتعلق بها، فالانسان المؤمن اذا استحضر في ذهنه / قلبه اللّه الرحمن الرحيم الرزاق، أي بصفاته الايجابيَّة الجماليَّة، يشعر بالاطمئنان والثقة والرعاية والقوة. اما اذا استحضر اللّه تعالى ذا القوة الشديد العقاب، فانه سوف يستشعر الخوف والرهبة في الحضرة الالهيَّة. وهكذا، مع العلم ان الخوف من اللّه ليس مثل الخوف من السلطان، لانه يتسم بالمردود الايجابي الفاعل في مجال الحياة والتاريخ.
ثانياً: انَّ (الاطمئنان، الخوف، الرقة، السجود) تعبّر عن مستويات متفاوتة من انعكاسات الذكر على الانسان، ذلك ان الذكر درجات، وكلما كان اعمق وابصر وارقى، يترك اثراً بمستواه ودرجة رقيه وتطوره، فنحن هنا بين يدي معاني مختلفة ليس فقط بالمحتوى والمضمون من الناحية الدلاليَّة، بل كذلك على متعبد الجوهر والصميم، فالسجود الذي يعبّر عن الخضوع التام ارقى من الخوف - مثلاً.
ثالثاً: ان هذه الآثار متطابقة بالمعنى بالتحليل الاخير، فالسجود في جوهره البعيد خوف، والخوف، في حدود او نطاق الحضرة الالهيَّة المقدَّسة - في حقيقته رق وعطف، وكل ذلك يولد الاطمئنان برحمة اللّه.
والذي اميل اليه هو التقريب الاول. ومهما يكن من امر فان المعادلة التي يطرحها القرآن تؤكد ان الذكر يؤدي الى نتائج ضخمة في حياة الانسان.
هذه المعادلة العريضة الواسعة تنبثق من قاعدة قرآنية عميقة، تمتلك قابلية تفسيرها وتحليلها وبيان سرها.
جذر المعادلة: معادلة الذكر السابقة ترتكز على اسٍ قرآني مهم، ذلك هو قوله تعالى: (فاذكروني اذكركم).
ان الانسان الذي يستحضر اللّه في عقله وقلبه يستحضره اللّه في رحمته وعنايته، فيطمئن قلبه وترف عاطفته، ويزداد خوفه من اللّه الذي هو الأمن زيادة في الالتحام باللّه... هذا هو المنبع الحقيقي لمعادلة الذكر السابقة بكل حركتها الهائلة المعطاءة. وفي الحقيقة على ضوء هذا الأس او الجذر القراني يمكننا ان نفهم العديد من المعادلات القرآنية الكريمة، وذلك مثل قوله تعالى: (لئن شكرتم لازيدنكم). وقوله تعالى: (ادعوني استجب لكم).
تعزير المعادلة: ولكي تستكمل المعادلة اجواءها الاثباتية الصارمة، دعونا نتصوَّر العكس تماماً، أي ماذا لو ان الانسان اغفل عن ذكر اللّه سبحانه وتعالى.
1 - القلق والهم والاضطراب: (ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة اعمى).
2 - النفور من الحقيقة العظمى: (واذا ذكر اللّه وحده اشمأزَّت قلوب).
3 - العذاب: (ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً).
ولا اريد ان ادخل في رحاب المعنى اللغوي لهذه الاثار، الا انها تماماً على تضاد من آثار الذكر التي مرَّت بنا سابقاً، وذلك بشكل او آخر.
هذه هي المعادلة الاولى، بنية وجذراً وتعزيزاً. ومن اروع ما فيها هذا التطابق الفذ.

المعادلة الثانية

يعقد القرآن الكريم معادلة اساسيَّة بين ذكر اللّه سبحانه وتعالى من جهة وبين مسألتين أساسيتين من جهة اخرى، هما:

1 - البيان.

2 - التفصيل.

قال تعالى: (ويضرب اللّه الامثال للناس لعلَّهم يتذكرون). (ويبين اللّه آياته للناس لعلَّهم يتذكرون). (فد فصّلنا الآيات لقوم يذكرون). (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون). (لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون). (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلَّهم يتذكرون).
والبيان هو التوضيح المسبوق او القائم على الشرح والتفريع والتحليل، كذلك هو التفصيل، فانه لا يختلف عن هذا المعنى بالشيء الكثير. والايصال بالقول يندرج في اطاري البيان والتفصيل، كذلك ضرب الامثال والانذار. والذي اعتقده ان من السهل ان تدرك العلاقة بين الذكر الذي هو الاستحضار الذهني المتوقد من جهة وبين كل من البيان والتفصيل من جهة اخرى.
اذ بماذا يتعلق الذكر؟ لا بد ان تكون هناك (مادّة) يتعلَّق بها الذكر، والمادَّة هنا هي الآيات والامثال والقول (وهي مادّة اولى حيث الغرض الاخير معرفة اللّه)، ثم لا بد ان تكون هذه المادَّة واضحة بيّنة، والا فان الذكر لا يتعلَّق بالفراغ ولا بالموضوع المبهم الغامض. هذه هي المعادلة في بنيتها الرئيسية.

المعادلة الثالثة

وفي صدد (الذكر اللّساني) بالذات أي الذكر باللّسان هناك معادلة قرانية رائعة جميلة، تصور لنا ثلاثة مواقف متضاربة.
قال تعالى: (يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم... ربّنا ما خلقت هذا باطلاً...). (واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون اللّه الا قليلاً). (واذا ذكر اللّه وحده اشمأزَّت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة).
هذه الآيات تجدّد لنا ثلاثة مواقف ازاء ذكر اللّه سبحانه، وهو هنا ذكر لساني أي ذكر علني:
الموقف الاول: الجدَّية والإصرار والحيويَّة.
الموقف الثاني: التراخي والتثاقل والتكاسل.
الموقف الثالث: النفور والاشمئزاز.
هذه هي المواقف، وهي - كما يظهر بوضوح - تتناقض في جوهرها وصميمها. فالاصرار على الذكر ينبع من الايمان. وعليه فهو يجسّد موقف اهل اليقين، فيما هامشيَّة الموقف وتراخيه يترجم حال المنافقين، والعدائية النفسيَّة المشحونة بالحقد على الذكر تخبرنا عن اولئك الذين كفروا بالآخرة. وبهذا تكتمل دائرة المعادلة باحكام، فالانسان امَّا مؤمن او منافق او كافر. ولكل موقفه المحدَّد من الذكر في قضاء العلن. فهو امَّا اصالةً واعتقاداً وأمَّا مداراة وتملُّقاً وامَّا حجوداً وانكاراً.
هذه المعادلة الرئيسية تنطوي على اشارات ضمنيَّة في القرآن الكريم... لنقرأ الآيات التالية: قال تعالى: (ولكل امّة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الانعام). (ولا تأكلوا ممَّا لم يذكر اسم اللّه عليه وانه لفسق).
هذا هو موقف الانسان المؤمن من بهيمة الانعام. ينبغي ان يذكر اسم اللّه عليها. ولا يجوز له اكلها اذا لم يتحقق الشرط المذكور.
اذن لننظر الموقف الآخر: قال تعالى: (وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه). (وما لكم ألا تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عليه).
انها معادلة اخرى ضمن الاطار الكبير الذي بيناه قبل قليل، ان هؤلاء تشمئز قلوبهم من ذكر اللّه تعالى ولا تطاوعهم نفوسهم ان يذكروا اسم اللّه على بهيمة الانعام، بل قد لا يأكلون منها اذا حققت هذا الشرط.
ان أي نظرة بسيطة على المعادلة السابقة ولاحقتها تكشف عن وحدة الفكر والسلوك. هذا التجانس والتطابق الفذ بين النظرية والممارسة من علامات البيان الحق في القرآن الكريم.
هذه نماذج سريعة من معالات الذكر في القرآن. استعراضناها كنماذج، وفي المقام امثلةً اخرى لا مجال لعرضها في هذه العجالة.

ثالثاً: عوامل الجذب والطرد

الذكر (مشروع) عبادي ضخم، ينطوي على فكر بل رؤية عميقة في الكون، ثم هو ممارسة عريضة، ولذا يحتاج الى قناعة مُسبَّقة وارادة ماضية، وتأسيساً على ذلك يمكن ان نقول ان هناك عوامل دافعة مشجعة لاداء هذه الممارسة، كما ان هناك عوامل مثبطة مانعة، وقد تعرض القرآن الكريم لكلا النوعين.
القرآن في حديثه عن كلا القسمين من العوامل المذكورة يطرح صورة دقيقة، مشحونة بالاسباب والنتائج والآفاق، لان طرحه ليس تقريرياً وعظياً اخلاقياً، وانما طرح تفسير وبيان. قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء...).
في عجالة نحاول ان نستقرئ عوامل الدفع والجذب لممارسة الذكر، كما ينبئنا الكتاب الكريم في جمل كثيرة من آياته الشريفة.

عوامل الطرد

العامل الاول: هو الانهماك غير المعقول او الزائد عن الحد المنطقي في تحصيل الثروة، واللهاث المحموم على الكسب المادّي، اضافة الى الافتتان في سحر القوة العائليَّة!! عبادة المال والقوة والجاه. وقد طرح القرآن هذا العامل على ثلاث مراحل:
المرحلة الاولى: تصوير للواقع المؤمن في صدد هذا الامتحان، وذلك في قوله تعالى:
(رجالُ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والابصار).
نحن هنا امام عمليَّة تصوريَّة لحالة نمط من الناس ازاء قضيَّة حسّاسة في تقرير المصير، هذا النمط هم المؤمنون، وتلكم القضية هي الانغماس في التجارة والبيع. هذا التقرير يتخذ صفة اوسع في قوله تعالى: (واعلموا أنما اموالكم واولادكم فتنة وأن اللّه عنده اجر عظيم).
وهي فتنة ابهة وتفاخر وتباهي، مما يدعو الى الاستزادة منها، وبالتالي فان ذلك سوف يلهي عن ذكر اللّه.
المرحلة الثانية: الاشارة الى المحذور في هذا المجال، وذلك في قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون).
فالذي نخرج فيه من هذه الآية ان المؤمنين لا تلهيهم تجارتهم واولادهم عن ذكر اللّه، والذي ينساق مع هذا الاتجاه السلبي ستكون عاقبته غير محمودة، اشارة الى المحذور...
المرحلة الثالثة: تجسّد الوقوع في المحذور فعلاً، اذ القران يعرض لنا موقفا عمليَّاً يجسَّمُ المحذور كواقع على الارض، وتعتبر قصة صاحبي القرية نموذجاً حياً على هذه النتيجة الخائبة التي سبق وان المح اليها على مرحلتين، فقد كان احدهما متمرداً على اللّه ساخراً من امره وقدرته وارادته، لا لشيء الا لانه (أنا أكثر منك مالاً واعز نفراً). قال تعالى: (وقالوا نحن اكثر اموالاً واولاداً وما نحن بمعذبين).
ويبدو من استعراض هذه الآيات، ان الاموال والاولاد يُغريان بالاستزادة، والاغراء يدعو الى مزيد من الطلب، وهذا بدوره يؤدي الى (الإلهاء) عن (ذكر اللّه) تعالى، وبالتالي الى الطغيان بل الى انكار ابسط الحقائق!! فصاحب القرية لا يتصور ان هناك بعثاً واذا كان هناك بعث فان العذاب سوف لن يصيب اصحاب الاموال الكثيرة والعوائل الكبيرة!!
وفي الحقيقة هذه احدى المداخل المهمَّة في تفسير الآيات، يمكننا ان نطلق عليه (التفسير الاطرادي في القرآن الكريم). سوف نلتقي ببعض نماذجه في فرصة قادمة ان شاء اللّه تعالى.
الخلاصة المهمة والجوهريَّة في المجال الذي نحن فيه هي:
انَّ الانغماس المحموم في الاستزادة من (الحال) المعبَّر عنها بالتجارة والبيع والانهماك المفرط في استزادة وتضخيماً واعلاءً.. ان هذا المرتب يؤدي او يسبّب (الإلهاء) عن ذكر اللّه وقد يقود الى نتائج اكثر خطورة.
العامل الثاني: وهذا اخطر من سابقه واكثر امضاءً في صنع الموقف السلبي من الذكر، انه (اتباع الهوى). والهوى كما يقولون الشهوات!! وفي الحقيقة ليس الامر بهذه البساطة، الهوى هو الشهوة في حالة مُعيّنة، الشهوة في حالة سيطرتها على الحقيقة، أي الشهوة في حالة سلطانها الذي يقود الى اصدار الأحكام المخالفة للمنطق والعدل والحق، الشهوة العمياء، أي التي تحذف او تقلب او تشوّه او تعطل الحقيقة. لنقرأ الآيات التالية: (ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق). (وان احكم بينهم بما انزل اللّه ولا تتبع اهواءهم). (فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون اهواءَهم). (واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءَهم).
فالملحوظ هنا هو الشهوة العمياء، الشهوة المتسلّطة على العقل، ولا اريد ان اواصل الحديث في هذه القضية، لانها قد تفوت علينا الموضوع الذي نحن في صدده. قال تعالى : (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه).
وفي الحقيقة ان هناك علاقة عضويَّة او جوهرية بين الذكر بمحيطه الواسع العريض و(سبيل اللّه)، فان الذكر لا يخرج عن سبيل اللّه ابداً، والضلال تعبير عن شدَّة الحيود والانحراف. والمضمون المجمل للآية، ان طاعة الشهوة العمياء تضل الانسان او تحرفه عن ذكر اللّه عزَّ وجل. قال تعالى : (فلذلك فادعُ واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءهم وقل آمنتُ بما أنزل اللّه من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم اللّه ربنا ورّبُكم...).
وببساطة يمكننا أن نقرر على ضوء الآية ان اتباع الهوى يسبّب الحيود عما انزل اللّه، أي الذكر بكل معانيه المتصلة باللّه ورسالاته وأنبيائه. قال تعالى : (انني انا اللّه لا اله الاَّ انا فاعبُدني واقم الصلاة لذكري * إنَّ السَّاعة آتية اكاد اخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى).
وفي الحقيقة وسواء المقصود بقوله تعالى (فلا يصدنك عنها) الصلاة او الساعة - انما كان هذا الموقف السلبي يسبب عدم الإيمان واتباع الهوى.
والصلاة ذكر، كما ان الساعة او بالاحرى الإيمان بالساعة يتضمن الذكر بشكل وآخر. والمعنى الذي نريد ان نثبته هنا هو، أن اتباع الهوى يُضلُّ ويصدُّ عن ذكر اللّه تبارك وتعالى. قال تعالى : (أفكلَّما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقاً كذَّبتم وفريقاً تقتلون).
فالهوى يدعو صاحبه الى تكذيب الحقيقة، بل الى قتل صاحبها، عمليَّة مضادَّة للذكر بكل مصاديقه الجميلة البيضاء. قال تعالى : (ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهنَّ).
هذا هو الهوى، او بالأحرى اتباع الهوى. انه يقود الى الحيود عن الذكر والى الصدّ عنه والى تكذيبه انه اخطر في تأثيره وأشد في مضاعفاته من ذلك الانغماس في التجارة ومن ذلك اللهاث وراء الأبهة العائلية، ان الإضلال والإفساد والتكذيب والصد كممارسات سلبية على صعيد الذكر اخطر من الإلهاء.
العامل الثالث : قال تعالى : (ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد اضلّني عن الذكر بعد اذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولاً). والذكر هو القرآن...
هنا بودي ان اسلط ضوءاً سريعاً على مسألة مُهمَّة، قد يتساءل البعض عن موقع الذكر في هذه الآية من مفهوم (الاستحضار) الذي اتفقنا على اعتباره المقصود من الذكر في هذا البحث السريع... فاستحضار اللّه تعالى في اللسان او الذهن شيء والقرآن ككتاب مقدس شيء آخر. وفي الحقيقة ان مثل هذا التعامل الحرفي مع القرآن يؤول الى تحجيم النص وتجميد الخطاب، فمن انجازات العلم اعتبار النص فضاء، جسماً، اجواء، مناخاً، مجالاً... وكلمة القرآن معنى يشمل مصداقه اللغوي والعرفي الذي تكوّن على اساس اعتباراته المضمونيَّة في نفسه ولدى الناس. بل يشمل حتى وظائفه المطروحة بين سطوره، فالقرآن حضور اللّه تعالى في الذهن والسلوك واللفظ... وليس هو هذا الكتاب المحفوظ بين الدفّتين، والاعراض عنه اعراض عن الذكر بمعنى الاستحضار الذي يدور حوله موضوعنا.
القرآن الكريم في هذه الآية الشريفة يكشف لنا عن عامل جديد في صياغة الموقف السلبي من الذكر، او احدى عوامل الطرد. انه الخليل السيئ العقيدة، المنحرف التفكير.
الضلال في الأصل : الغيبوبة وبالتالي يعني النسيان والضياع. ضلَّ الشيء : خفي وغاب، ونحن اذا اخذنا كل هذه المقتربات في التقدير والاعتبار، استطعنا ان نقول : ان هذا الخليل السيئ ضلَّ صاحبه، غيَّبهُ، غيَّبه عن الذكر، عن استحضار اللّه في عقله وضميره عبر التفاعل الحي مع آيات الكون وخيراته العظيمة.
العامل الرابع : قال تعالى : (انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر اللّه).
الصَدُّ : الإعراض والصرف، صدَّ : منع وصرف. الشيطان بنص القرآن يمنع الانسان عن ممارسة الذكر، أي استحضار اللّه تبارك وتعالى، ويبدو ان عمليَّة الصّد هذه تشكل حاجزاً كثيفاً بين الانسان وهذه العبادة الحضارية الراقية لانها - عمليَّة الصَد - من عمل الشيطان الذي يتمتع بقابليَّة معروفة على اغواء الذين لا يستمعون الى نداء العقل والضمير. ان المعنى اللغوي لكلمة (صدَّ) تعزّز هذا التصور، لان الصدَّ ينصرف الى المنع البالغ الشدَّة، ولكن هذا الصد ينعكس بدوره داخل الانسان حيث يوسع من دائرة نفوذ الشيطان، وذلك اذا ما انتبه الانسان الى نفسه وقاوم إغراء هذا المخلوق اللعين. يقول تعالى (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه).
نسي الشيء ينساه نسياً ونسياناً : ذهل عنه، وغاب الشيء عن ذكره وحفظه، ويقال، نسي الشيء : فرَّط في تذكره حتى غاب عن حفظه. ان عمل الشيطان هذا ابلغ من غيره في تحقيق هذه النتيجة. انه النسيان، وانساء الشيطان ادهى من الإنساء الناتج عن اللهو او الافتتان بالابهة العائلية او المتولد من اتباع الهوى او اضلال الخليل السيّئ العقيدة.
من العرض السابق نستطيع أن نطرح المختصر السريع التالي : أنَّ هناك جملة عوامل تحول بين الانسان وذكر اللّه تعالى، اهمها :
أولاً : الانغماس المحموم في جحيم الكسب المادّي غير المحدود.
ثانياً : الافتتان بالابهة العائلية.
ان كلا العاملين المذكورين (يُلهي) عن ذكر اللّه، وقد يتواصل تأثيرهما الخطير فيعطي نتيجة خطيرة للغاية.
ثالثاً : اتباع الهوى، أي الشهوة المجنونة الحاكمة المتسلطة، فان هذا الهوى (يُضلُّ) الانسان عن ذكر اللّه (ويصدّه) عن ذلك. بل (ويكذّب) حقيقة الذكر في داخل الانسان.
رابعاً : اتباع الخليل السيّئ العقيدة، فهو (يضل) صاحبه عن ممارسة هذه العبادة الحقة.
خامساً : الشيطان بمعناه الميتافيزي القرآني، فإنه (يصدّ) الانسان عن ذكر اللّه ثم (يُنسيه) هذا الذكر على مديات بعيدة من الزمن والفعل.
هذه العوامل بطبيعة الحال ليست متفاصلة، متعاندة، وآثارها هي الأخرى، فهناك علائق وثيقة بين الهوى والشيطان وعبادة المال والخليل السيّئ العقيدة، وربما هناك تواصل بين آثار هذه العوامل السوداء، وقد تتداخل بشكل وآخر، وتتبادل التأثير والتأسيس.
ولو اخذنا النسيان مقياساً عامّاً سارياً في هذه المجالات (اللهو، الصد، الضلال، التكذيب، النسيان الشيطاني) لامكننا القول، ان الموقف المرفوض قرآنياً من الذكر انما هو نسيان الذكر، أي العوامل السالفة انما تسبب نسيان الذكر، ولكن هذا النسيان درجات، وذلك تبعاً لاسبابه الكامنة وراءه (عبادة المال، الافتتان العائلي، اتباع الهوى، الخليل السيّئ العقيدة، الشيطان الميتافيزي).
ولكن ما معنى النسيان؟ في الحقيقة هناك اكثر من صيغة للنسيان الذي نحن في صدده، فهو قد يعني ذلك (الأِمحاء) الصوري، فان انساناً ما قد لا يأتي اسم اللّه على لسانه، ولا يستحضره في عقله وشعوره، ولكن هناك نسيان من نوع آخر، هو اهمال اللّه في الحياة والسلوك والتفكير، وقد يذكر احدهم اللّه تعالى لكن في معرض النفي او الاستهزاء او التكبر... او... او... والعياذ بالله وهذا هو النسيان المعنوي، أي الذي يتصل بافق الفكر والتصور، وقد يذكر احدهم اللّه امام الآخرين رياءً وتملقاً، أي لغاية انتهازيَّة، وهذا هو الآخر نسيان. اذن هناك عن علم واصرار!!، فليس كل نسيان يعني غياب الصورة بالمعنى التقليدي المعروف، وعليه فان كثيراً من الناس يذكر اللّه تعالى، يتحدث عنه ولكن هو ناسٍ، غافل، ضال. قال تعالى : (نسوا اللّه فنسيهم ان المنافقين هم الفاسقون). (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
فالنسيان لا ينصرف فقط الى ذلك الغياب الحسي البحت. بل هو يعني الاهمال والازدراء، أي الغياب المعنوي، انه (الإمّحاء) الروحي، الجوهري، الصميمي، ليس هو غياباً زمنياً بالدرجة الاولى. بل هو غياب منطقي في الاعمال والاقوال والتصرفات والسلوك والفكر والعلاقة مع الآخر والتفاعل مع الاشياء.
فعباد المال، قد يذكرون اللّه على السنتهم، ولكن عرَضاً، وبدون تفكر. والمنهمكون في لذة محمومة قد يذكرون اللّه ولكن في معرض اللهو والخفّة، والذي ينكر وجود اللّه قد يذكره آلاف المرات بلسانه الكليل، ولكن في معرض الانكار!! والمنافق قد يذكر اللّه بخشوع وخضوع ولكن حضور اللّه في روحه معدوم. هذا هو النسيان الذي نقصدهُ.
ان اللَّهو والصدَّ والضلال والتكذيب والنسيان الشيطاني ازاء الذكر... انها جميعاً نسيان، ولكن بمعنى الإهمال وعدم الجديَّة، غياب منطقي وفعلي للّه في الحياة.
الآن ماذا ينتظرنا؟ لا بد ان نعود الى التفسير بالتناظر...
لقد استمعنا الى عوامل الطرد، فما هي عوامل الجذب؟!
وباختصار شديد، ان العقل الراجح، أي الذي يقدر مسؤولية هذا الكون، والذي يتعامل مع الاشياء بجدية ومنطق، هذا العقل من اهم عوامل الجذب في هذا المجال، يدعو الى ممارسة الذكر، كحق عبادي اصيل. قال تعالى : (الم تر ان اللّه انزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً الوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والانعام مختلف الوانه كذلك انما يخشى اللّهَ من عباده العلماء).
هذا هو العقل الراجح، يستنطق دلالة الكون، فيخشى اللّه تعالى، وذلك هو الذكر، أي استحضار اللّه في الذهن مع الخشية، بلفظ او دونه، والقرآن يعقد تناظراً فذاً بين ذلك النفر من الناس، العابث في طاقة الحياة، الساهي عن حركة هذا الوجود، وبين ذلك النفر الذي يقدِّر ويثمّن امانة الكون وضخامة دلالته، اولئك لا يذكرون اللّه فيما هؤلاء مغرمون بهذه العبادة الراقية السامية. قال تعالى : (الم تر انهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون، الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا اللّه كثيرا...).
واذا كان العقل الراجح من اهم عوامل الجذب، فان تزكية الذات وتنمية قواها الخيّرة من عوامل الجذب الاخرى في هذا المجال الحي من السلوك الانساني الجميل. قال تعالى : (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى).
واعتقد ان مركب (العقل - الذات) يشكل معادلة واضحة متكاملة في بيان عوامل الجذب بالنسبة للذكر، العقل في وعيد والذات بطهارتها.

رابعاً : الموقف السلبي من الذكر

للموقف السلبي من الذكر حيثيات وابعاد والوان، والقرآن الكريم تطرق بدقة الى مصاديق هذا الموقف، وأرى من المفيد جداً جرد تلكم المصاديق لاستكناه حقيقتها وهويتها.
الاعراض : الاعراض موضوع قائم بذاته في القرآن الكريم، ونحن هنا نتحدث في مجال واحد، هو الاعراض عن الذكر. قال تعالى : (بل هم عن ذكر ربّهم مُعرضون). (ومن اظلم ممن ذكر بآيات ربّه فاعرض عنها).
أعرض : ولّى مبدياً عرضه. فالانسان الذي يعرض عن شيء انما يعطيه ظهره كناية عن الرفض او عدم الرغبة او غياب التفاعل وفي اغلب الأحيان انما يعرض الانسان عن شيء أو امر... بفعل الاسباب الآنفة.
القرآن يقدم لنا صورة واضحة جليَّة لاعراض بعض الناس عن الذكر، فهو على مستويين رئيسين :
المستوى الأول : اعراض عن الذكر بالذات، فهو لا يطيق ذكر اللّه سبحانه، شكراً او مدحاً او استغفاراً او تعظيماً، فهو لا يستحضر هذه الصيغ ابداً، او لا يتحمل سماعها او الحديث فيها وعنها، وقد مرّت اكثر من آية على هذا الصعيد.
المستوى الثاني : اعراض عن آيات اللّه تعالى التي تستدعي الذكر، سواء مع اللفظ او بدونه، انه على خصام ذهني منحرف مع هذه الآيات البينات، عندما تطرح او تعرض عليه يُولي مُبدياً عرضه، يصمّ اذنيه، يعطل عقله، يتهرب!! او ان هذا الانسان لا يكلف عقله أبداً في استجلاء عظمة هذا الكون ومعرفة دلالة هذه النعم. قال تعالى : (وان يروا آية يعرضوا...) (وكأين من آية في السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها مُعرضون...) (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها مُعرضون...).
فالمعرضون، امَّا يضعون اصابعهم في آذانهم، او يعطلون عقولهم، او كلا الامرين معاً وهو الغالب. وكم بودي ان اسرد أنواع الاعراض، ولكن المجال غير مناسب.
2 - المجانبة : قال تعالى : (سيذكر من يخشى * ويتجنبها الاشقى).
المجانبة : الميل. والمعنى : ان (الاشقى) عندما تلقى عليه (الذكرى) يجعلها خارج مسيره، خارج محيطه، خارج فكره واهتمامه، يتحاشاها، يجعلها على طرف منه، يميل عنها. انه (يتجنّبها). ولكن ما معنى الذكرى هنا؟ قالوا : الموعظة.
وفي الحقيقة، ينبغي ان لا نفهم الموعظة هنا ضمن ذلك الإطار التقليدي، أي المضمون الارشادي الخلقي، ايجاباً او سلباً، فان الفكر الذي يستوحي دلالات هذا الكون وهذه النعم، هو الآخر (موعظة)، ان عرض الآيات على العقل الدالة على التوحيد والحكمة والقصد هي وعظ من الدرجة الراقية، خاصة وانها قد تؤول الى الالتحام باللّه تعالى.
اذن هناك طائفة من الناس، يتحاشا من ذكر اللّه جلّ وعلا، بالمعنى السابق، وربما الإعراض اشد من المجانبة كما يبدو من الإيحاء اللغوي، ولكن في النتيجة ان كليهما من مصاديق الموقف السلبي من هذه العبادة الطيبة.
3 - التولّي : قال تعالى : (فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد الاّ الحياة الدنيا).
وتولَّى : انصرف وأدبر. ويبدو : ان هذا الانصراف هنا اوسع مدى وأعمق خطورة ودلالة من المجانبة والاعراض. ومما يعطي للتولي هذا البعد القاسي او هذه الدلالة الاكثر كثافة وظلامية من الذكر، ان طالما يقترن بمواد لغويَّة تتصل صراحة وعلناً بالجحود والانكار والتعطيل - والعياذ باللّه - قال تعالى : (لست عليهم بمسيطر * الاَّ من تولّى وكفر). (فلا صدق ولا صلَّى * ولكن كذب وتولى).
انه موقف سلبي اشد مما عليه المجانبة والإعراض.
4 - العشو : قال تعالى: ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين* وانَّهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون).
العشو: اصله النظر ببصر ضعيف، يقال: عشى عشواً وعشواً اذا ضعف بصره واظلمت عينه كأن عليها غشاوة.
ومن العجيب ان يفسر بعضهم (يعش) هنا ب(يعرض)، فيما هي في الحقيقة (يتعامى) او (يتغافل)، حيث ينطوي المعنى على محاولة تجاوز الحقيقة على نحو العناد الخفي. والشيطان في الآية امَّا بمعناه الميتافيزي المعروف او ذو السلطان الغاشم كما جاء في مجمع البيان. وفي اعتقادي ان الاول اكثر ظهوراً. ومهما يكن، يسجل القرآن الكريم في هذه الآية احد مصاديق الموقف السلبي من الذكر، انه التعامي، أي الهروب المصطنع. وفي الآية نكتة رائعة يؤجل الحديث عنها الى السطور التالية باذن اللّه.
5 - النسيان: قال تعالى: ( نسوا اللّه فنسيهم ان المنافقين هم الفاسقون). نوع آخر من أنواع الموقف السلبي من ذكر اللّه سبحانه، وقد نوهت سابقاً ان هؤلاء لم ينسوا اللّه لساناً، بل هم قد يذكرون اللّه دائماً ولكن في معرض التعطيل او الانكار او الاستهزاء، وسوف نتطرق بالتفصيل الى حيثيات هذا الموضوع ان شاء اللّه. ولكن هذا الموقف اكثر ايغالاً بالسلبيَّة والجحود على صعيد الذكر، فهو يتعدى حدود المجانبة والاعراض والعشو بل و حتى التولي، وانه يعبر عن مرحلة سوداء قاتمة في حياة وسلوك نفر من الناس، انحدروا اليها عبر ممارسات منحرفة بالغة الخطورة والتجني على الحقيقة والعلم.
6 - اللهو: وقد المحنا اليه سابقاً، واللهو عن ذكر اللّه له اسبابه التي افصح عنها الكتاب المجيد، الا وهي عبادة المال والتفاني في سبيل الابهة العائلية، والانغماس في هذا العالم ذي النزعة الاستهلاكة المتعالية.
7 - الضلال: وقد اشرنا اليه قبل قليل ايضاً. والضلال يعني الغياب، وتبين لنا من استعراض الآيات، ان الحيود عن ذكر اللّه في هذا النطاق يكون بسبب الشيطان او الخليل السيّئ العقيدة، وهو بلا ريب مرحلة بالغة الانحدار، ولعلها اسوأ موقف مما مرَّ علينا.
8 - الاشمئزاز: قال تعالى: (واذا ذكر اللّه وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون...).
الشمز: التقبض ونفور النفس مما تكره. تشمَّز وجهه: تقبض.
اشمأزَّ اشمئزازاً: تقبَّض واجتمع بعضه الى بعض.
هذا هو معنى الاشمئزاز في اللغة، وهو تعبير دقيق على حالة الكره والنفور الذاتية من شيء ما، وهؤلاء بلغت بهم مواقفهم السلبيَّة من ذكر اللّه ان تشمئز قلوبهم من ذلك!! ومما لا ريب فيه ان هذا الاشمئزاز لم يأت من فراغ، بل لا بد من ممارسة عمليَّة لانواع الموقف السلبي لفترة من زمن وعلى مساحة عريضة من تصرفاتهم حتى انحدروا الى هذا الدرك من الفكر المشوش الحاقد.
9 - الصد: ثم نصل الى الذروة من السلب في خصوص ذكر اللّه وآياته، اننا مع مرحلة في غاية الخطورة، اذ هنا تتجسّد على شكل وظيفة، رسالة، مهنة، ليس تصرفا شخصيَّاً بحتاً، ولا موقفاً سلبيَّاً عارضاً. انها مرحلة الصد عن ذكر اللّه. اي: المنع!!
فكأن تلكم المواقف تطورت وتقادمت حتى تحولت الى وظيفة: الشيطان هو البطل الاول في اداء هذه الممارسة المظلمة. قال تعالى: (انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر اللّه).
ولكن للشيطان جنوده العاملين على هذا الطريق الموحى. قال تعالى: (أرأيت الذي ينهى عبداً اذا صلَّى) وكم لذلك من نظير.
واذا اردنا ان ندرج عناوين الموقف السلبي من ذكر اللّه تبارك وتعالى كما جاءت في القرآن الكريم، وذلك حسب السرد الآنف، فان منها:
* «اللهو» باسبابه السالفة: وهو كل من يشغلك عن الذكر وبالاخص ما بيَّنه القرآن.
* «المجانية»: الميل .
* «الاعراض»: الانصراف/اعطاء الظهر.
* «التولي»: الهروب.
* «العشو»: التعامي والتغافل.
* «الاشمئزاز»: التقبض.
* «الضلال»: الغياب.
* «النسيان».
* «الصد»: المنع والنهي.
ولا اريد القول ان هذه الحالات متسلسلة منطقياً وان كانت لا تعدم سيراً تصاعدياً في درجة الموقف وشدته وكثافته، ولكنها بلا ريب تعبير عن حالات محتملة كثيرة، ذلك ان الموقف السلبي من ذكر اللّه يتباين بالقسوة والغلاظة من شخص لآخر، تبعاً للخلفيات الفكرّية والظروف البيئية والممارسات والسلوك والاحداث والغايات، وهذه المجموعة (اللهو، المجانبة، الإعراض، التولي، العشو، الاشمئزاز، الضلال، النسيان، الصد)، تصوّر الموقف حال السماع او الرؤية وحال البحث والنظر عن نيَّة مسبقة واصرار اوّلي. والذي لا ريب فيه ان هذه الحالات يمكن التحرر من اسارها وانحلالها، وذلك اذا توفرت النية الصادقة والارادة الحرة، وهذه المعادلة كثيراً ما يطرحها القرآن في صميم خطابه، بصورة واخرى، فالحالات المذكورة وعلى كافة مستوياتها ليست قدراً ازلياً، بل هي مواقف، يمكن ان تحصل ويمكن ان تزول ويمكن ان تشتد ويمكن ان تضعف، والكلمة النهائية في كل ذلك بيد اللّه سبحانه. قال تعالى: (انا هديناه السبيل امَّا شاكراً وامَّا كفوراً).
مضى بنا ان فضاءات الذكر الطاهرة ومعادلاته ترجع الي جذر قرآني اساسي، ذلك هو قوله سبحانه وتعالى: (فاذكروني اذكركم).
والسؤال المطرح الآن، هل هناك ضابطة لهذه المجموعة من الموقف السلبي ازاء الذكر؟
في الحقيقة ان كل هذه المواقف تنبع من (نسيان) اللّه تعالى. والقرآن يصور لنا ذلك وفق منطق مخصوص صارم:
1 - قال تعالى: (نسوا اللّه فنسيهم ان المنافقين هم الفاسقون).
2 - وقال تعالى: (نسوا اللّه فأنساهم انفسهم).
الانسان عندما ينسى اللّه، يخرج من عهدة اللّة، ثم ينسى نفسه، وعندها تضيع كل دلالات الكون والحياة في معادلته الذهنية، ومن ذلك ينشأ الموقف السلبي من الذكر بكل الوانه واشكاله وحالاته..
مرَّة اخرى نقول: ان النسيان هنا ليس (الامحاء الضروري) بل هو هذا الاهمال او هذا الجحود او هذا التعامي. الانسان يلهو عن ذكر اللّه او يعرض او يجانب او يتولى او تشمئز نفسه او يضل او يصد لأنه نسي اللّه في الاساس، عن سابق اصرار وعناد.
لنقرأ على سهل المفارقة الكثيرة. (فاذكروني اذكركم) (نسوا اللّه فنسيهم). فالاولى تستوعب كل ممارسات الذكر الطيب وتفسيرها. والثانية تستوعب كل المواقف السلبية عن الذكر وتفسرها...
وفي قبال هذا الموقف السلبي نجد التفاعل الحي مع الذكر من قبل الانسان المؤمن، وهناك صور متعاظمة من درجات الذكر. يقول تعالى (فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم او اشد ذكرا).
وفي هذا التوجيه الرباني الكريم نفهم ان استحضار اللّه درجات، تختلف او بالأحرى تتفاضل بالوضوح والسعة والعمق، ويذهب بعض المفسرين الى ان الاشارة هنا تكمن في قوله تعالى : (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب) وقوله : (واذكر ربّك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول) وقوله : (الذين اذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم) وقوله (انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا بها خروا سجدا) وقوله : (ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر اللّه) وقوله : (ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر اللّه).
وفي الحقيقة : مهما يكن من امر، فان قوله سبحانه (أو اشد ذكرا) تلميح واضح، بل تصريح اكبر على مراتبيَّة الذكر، ومن الطبيعي ان هذا التنوع بلوازمه وآثاره وعطاءاته، انما هو دليل على وجود مراتب متفاوتة في افق الذكر وحقيقة هويتها.

خامساً : الذكر الكثير

من امضاءات الخطاب القرآني تأسيس الذكر الكثير، ممارسة هذه العبادة على الدوام، فنحن نقرأ في كتاب اللّه عزَّ وجل : (يا ايها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً)، (واشركه في أمري * كي نسبحك كثيراً * ونذكرك كثيرا).
فالقرآن اذن يحث المؤمنين على الذكر الكثير. لكن ما معنى الذكر الكثير هنا؟
الاقرب الى الاحتمال في مثل هذه الموارد هو الذكر اللساني، ولكن كتعبير عن الحضور الذهني الذي هو الاساس في هذه العبادة، على ان الكثرة لم تأت اعتباطاً، ولا هي تصعيد عددي رقمي للممارسة العبادية المذكورة، بل هي عملية توكيد وتجذير وتمكين للحضور بلحاظ موجبات معينة.
ان الانسان يعيش وسط حياة زاخرة بالحركة والفعل، وهو يعمل في اجواء متقلّبة متغيرة، تجتاحه ملابسات واحداث متوقعة وغير متوقعة، ولذا فهو تارة معافى نشيط، واخرى مريض متهاوي، مرَّة آمن مستقر، واخرى مشرَّد مضطرب، مرّة في تقوى اللّه وحبه، واخرى في عصيان وتمرّد. صور وحالات لا تهدأ ولا تفتر ولا تستقر. من هنا يأتي سرّ الكثرة بالذكر الذي يلح عليه القرآن، أي انَّ الكثرة مرتبطة بحياة الانسان العريضة المتشعبة، فهو على ضوء هذه السعة :
* يشكر عند الغنى.
* يرجو عند الفقر.
* يحمد عند البلاء.
* يستغفر عند المعصية.
* يكبّر عندما يرى الآيات العظيمة.
وهكذا مع كل حالة واقعة او محتملة، ولعل ما يؤيد هذا التوجيه، ان اللّه يطلب من الانسان ذكره في السراء والضراء، ولذا قيل : الشكر على النعم والحمد على الامتحان، وعلى هذا المنوال يطرح الخطاب الاسلامي سلسلة من المقتربات المركبة من طرفين، احدهما حالة والاخرى نوع من الذكر المناسب، والقرآن مليء بهذا التوجيه من خلال تشخيص علتي لكلا الامرين، أي المادة والذكر المخصص بازائها، على ان تجديد الذكر من شأنه تجديد الروح الانساني بالتقوى، وتحذير للاتجاه الديني السليم في ضميره وعقله، والانسان الذي يذكر اللّه كثيراً يذكره اللّه كثيراً. قال تعالى : (فاذكروني اذكركم). وفي المقام رأيان في تفسير ذكر اللّه للانسان :
الاول : ان ذكر اللّه للانسان هو هذا الاطمئنان والزيادة في معرفة اللّه تعالى وغيرها من الآثار الايجابية التي تصب في النتيجة لصالح هذا المخلوق، سواء في الدنيا والآخرة.
الثاني : ان المعنى في اتجاه : اذكروني بالشكر اذكركم بالزيادة، واذكروني بالتوبة اذكركم بالمغفرة واذكروني بالدعاء اذكركم بالاستجابة. القرآن الكريم يحوي كلا الاتجاهين : قال تعالى : (الا بذكر اللّه تطمئن القلوب). وقال تعالى : (ادعوني استجب لكم). وفي الحقيقة لا يوجد فارق بين الاتجاهين، فاستجابة الدعاء اضافة الى الانسان بشكل من الاشكال، وعليه يكون الاتجاهان منسجمين متعاضدين.
الذكر، أي ذكر اللّه كما تبيّن أعلاه لا ينحصر في حالة من الحالات، ولا في مجال من المجالات، وامكان كثرته او بعض حيثيات هذه الكثرة قابلية امتداده لمصاديق تتكثر بتكثر الظروف والملابسات، ولكن رغم ذلك هناك بعض المواطن اشار اليها القرآن الكريم، ويبدو ان سبب الاشارة هو اهمية الموطن وخطورته... منها :
1 - النعم الالهية : قال تعالى : (يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين). وقال تعالى : (واذكروا اذ كنتم قليلاً فكثركم). وقال تعالى : (يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم اذ جعل فيكم انبياء).
وذكر النعم شكر اللّه والثناء عليه سبحانه، وليس تلك الصورة الذهنية العاكسة للنعمة كما يتصور البعض، والكتاب يشير الى هذه النعم سواء كانت مادية او معنوية، فردية او جماعية، في السلم او الحرب، وآيات القرآن في هذا الموضوع كثيرة.
2 - في المحن : قال تعالى : (يا ايها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا اللّه كثيراً).
والحرب محنة، وفي ضوء هذه الآية يمكننا ان نقول ان من مبتنيات التربية الاسلامية ذكر اللّه تعالى عند الشدائد والمصاعب والمحن، ذلك ان الحرب هنا مثال، او نموذج، حيث تلتقي هنا بمدخل جديد للتفسير يعتمد على قاعدة توسيع الدلالة لاستيعابها مصاديق نظيرة او مشابهة او مشاركة. أي نجعل من الحرب هنا سبباً لتوسيع الفكرة كي تشمل نظائرها من الشدائد والابتلاءات والمصاعب. حيث تكون الحرب مجرَّد مثال توضيحي اشاري، وهذه الفكرة مستلة من بعض موجبات علم الالسنية الحديث. وذكر اللّه هنا ينصرف الى صيغ الاستعانة باللّه والتقوي به والاتكال عليه والاستمداد منه.
3 - عند الخطيئة : قال تعالى : (والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا اللّه).
ذلك ان الذكر الحقيقي استعادة حقيقية لتوازن الذات الذي يختل بارتكاب الفاحشة او ارتكاب ما حرَّم اللّه تعالى، بل الذكر هنا تجديد الارتباط باللّه على اساس حياة جديدة بريئة من التلوث والانحراف. واعتقد ان حقيقة الذكر هنا تشي الى دائرة التوبة والندم والاستغفار.
وهناك مواطن اخرى، لعل اهمها رؤية آيات اللّه المبثوثة في كل انحاء الوجود الرحيب. وهو امر طبيعي في خصوص المؤمنين اصحاب العقول الفطنة التي تعطي اهمية كبيرة لوعي دلالة الكون وعجائبه.

سادساً : حوليات النص والمادة

(1) يربط القرآن الكريم بين الذكر لمشروع عبادي متقاوم في مصاديقه وآثاره وبين مفاهيم كبيرة في صناعة الانسان وبناء الحياة وتحريك التاريخ. قال تعالى : (الاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا اللّه كثيرا). (قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلَّى). (واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا).
فالايمان والعمل الصالح وتزكية النفس والتبتل عوالم ضخمة في حياة الانسان والمجتمعات، ولذلك فان مجيء الذكر في هذه السياقات على نحو التصاف والتعاضد انما دليل صارخ على موقع هذه العبادة من هذه العوالم الشاخصة في مسيرة الايمان الطويلة. وفي أحيان كثيرة يعطف على الذكر احد مصاديقه، او بالعكس. قال تعالى : (فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون). (...كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا).
وهذا اللون من النصوص ينطوي على توكيد وتلاحم بين المفهوم في افقه العريض ومصاديقه التي يدل عليها، بل هو اسلوب تأسيسي يشير الى اهمية الجانب العملي والممارساتي للنظرية المبتناة، وربما لغرض التوكيد على مرتكز متميز (الشكر، التسبيح...) لمناسبة خاصَّة.
(2) نصوص الذكر في القرآن الكريم تمتلك صلاحية الحركة، فهي ليست طروحات نصيَّة جامدة، ولذلك تتصل بالايمان والعمل الصالح وغيرها من مقتربات التأسيس العقيدي والسلوكي، ومن جماليات هذه النصوص انها تتضمن مشروعيتها ومسوّغها بذاتها. فالذكر سبب الاطمئنان وداعية الثبات على الحق وقد يؤدي الى الفلاح في الدنيا والآخرة، وعليه فهو في نصه القرآني بنية مكتملة الذات، وعلاقتها بالبنيات الاخرى علاقة مسؤولية في توجيه التاريخ.
(3) والذكر ومن خلال نصوصه القرآنية حاد في عطائه مرن في مصاديقه!! (الشكر، التسبيح، الحمد، الاستغفار، التهليل،...)، سلسلة طويلة من المفردات، وهذه الكثرة دلالة غنى في المضمون، لانها على كل حال ذات معاني متعددة، ومما يثري الذكر، انه الى جانب هذه الكثرة في المعاني هناك آثار حادة في صيرورتها وتحققها، تترتب على تلكم المفردات حال ممارستها، فالمعنى متأتي من كلا الجانبين.
(4) تتجاذب الذكر من خلال نصوصه القرآنية معادلات متطابقة، ومعادلات متناظرة، وكل معادلة لها جذرها الذي تنبثق منه. الامر الذي يتيح للعقل حرية السياحة الثريَّة بين هذه النصوص. يستخلص المفاهيم والافكار، فنصوص الذكر تؤسس هيكلاً فكرياً قائماً على التوازي والتناظر والتضاد، وعليه فان اللغة هنا ليست فاعلية وصفيَّة، وانما هي عمل فكري ناظم ومنظوم. قال تعالى : (فاذكروني اذكركم....) وقال تعالى : (نسوا اللّه فنسيهم...).
(5) والذكر في القرآن الكريم، أي على ضوء نصوصه، مسيرة وتطلع، فان نصوصه تأخذ بيدك لتطل بك على لواحق تودع مسبوقاتها كضرورات او مقدمات، وهذا بطبيعة الحال يستدرج العقل وفيه غريزة التواصل مع الحدث كي يصل الى ذروته، حيويَّة متدفقة باسرارها الفكريَّة.
(6) (ولذكر اللّه اكبر...). دليل مدهش على موضوعيَّة الذكر في النص القرآني، موضوعيَّة تؤثر الامل، وتنفذ العقل من الوهم، وتنشل الانسان من الغرور، وتضيء الذات بحقيقتها.

مقالات مشابه

مؤلفه‌های مؤثر در مثبت‌اندیشی با تکیه بر داستان حضرت یوسف(ع)

نام نشریهپژوهش نامه معارف قرآنی

نام نویسندهحبیب‌الله حلیمی جلودار, مصطفی رضازاده بلوری

مطالعه سبك شناختي واژه هاي گناه در قرآن

نام نشریهمشكوة

نام نویسندهسیدمهدی مسبوق, رسول فتحی مظفری

سالم سازي جامعه از انحرافات اخلاقي در قصص قرآن

نام نشریهمشكوة

نام نویسندهمحمد حسین مردانی نوکنده

اصل رحمت در حکمرانی از منظر قرآن

نام نشریهقرآن، فقه و حقوق اسلامی

نام نویسندهمحمد جواد ارسطا, سیداحمد حبیب‌نژاد

سرگرمي و لهو در قرآن كريم

نام نشریهشيعه شناسي

نام نویسندهسیدحسین شرف‌الدین

عواطف مثبت، آثار و راهکارهای تقویت آن در سورۀ یوسف(ع)

نام نشریهپژوهش نامه معارف قرآنی

نام نویسندهاحمد صادقیان, محمد شریفی, علی محمد میرجلیلی, بی‌بی‌رقیه مصدقی

معناشناسی «قول حسن» در قرآن کریم

نام نشریهتفسیر پژوهی

نام نویسندهحبیب فرخی‌نیا