مجتمع الإنساني في القرآن الكريم

پدیدآورمحمدباقر الحکیم

تاریخ انتشار1388/10/05

منبع مقاله

share 1017 بازدید
مجتمع الإنساني في القرآن الكريم

محمد باقر الحكيم

في البداية يحسن بنا أن نقف قليلاً عند المنهج العام للبحث والحاجة إليه، وهو منهج: (التفسير الموضوعي)، وكذلك موضوع البحث وأهميته، وهو: (المجتمع الإنساني).

1 ـ منهج البحث

تختلف الدراسات التفسيرية للقرآن الكريم فيما بينها وتتنوع في المنهج والمضمون تبعاً للموضوعات التي تهتم بها والمدرسة التي ينتمي إليها المفسِّر، حيث نرى بعض المفسرين يتجه إلى تأكيد الموضوعات اللغوية واللفظية في النصّ القرآني، وبعضهم الآخر يتجه إلى تأكيد الموضوع التشريعي والفقهي، وثالثاً يولي اهتمامه بالموضوع العقائدي...
ويلتزم بعض المفسِّرين منهج الحديث ويفسرون القرآن بالمأثور، بينما يعتمد غيرهم منهج الجمع بين المعقول والمنقول، أو منهج التدبر والتحليل، أو منهج تفسير القرآن بالقرآن، وهكذا...
وبالرغم من هذا الاختلاف في مذاهب التفسير وتعدد مدارسه وتباين اهتماماته، إلا أن هناك منهجين رئيسيين متبعين في تفسير القرآن الكريم، وهما: منهج التفسير الترتيبي (التجزيئي)، والتفسير الموضوعي.

أولاً: التفسير الترتيبي (التجزيئي)

وهو المنهج الذي اعتاده المفسرون منذ بدايات تكوّن علم التفسير وحتى عصرنا الحاضر، حيث يفسر القرآن الكريم، قطعة قطعة، وكما هو مدّون في المصحف الشريف، فيبتدأ المفسِّر بسورة الحمد وينتهي بسورة الناس.
ويستعين المفسِّر في إطار هذا التفسير ـ عادة ـ بظهور الكلام في المعنى المراد، وبالقرائن المأخوذة من القرآن الكريم نفسه، وذلك بمراجعة الآيات الأخرى، أو الآية التي تشترك مع المقطع، موضع البحث في بيان مصطلح أو مفهوم أو فكرة، أو يستعين بالقرائن الحالية التي تعرف عادة من خلال مراجعة ظروف نزول القرآن من قبيل ما يسمى بأسباب النزول، وما أشبه ذلك من المسلمات التاريخية أو المستنبطة من القرآن الكريم نفسه.
كما يستعين المفسِّر ـ أيضاً ـ ببعض المسلّمات ـ العقائدية أو الدينية التي يرشد إليها القرآن الكريم ـ ذات العلاقة بالآية موضوع التفسير أو التي يدركها العقل السليم.
ويشكّل المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، مصدراً آخر للقرائن المنفصلة في عملية التفسير بشكل عام، وإن كان دور المأثور الأساس ـ على ما ذكرنا في بحث علوم القرآن ـ(1) هو التوضيح والتفصيل والتطبيق.

سبب تبني المنهج الترتيبي

وقد تُذكر أسباب متعددة لتبني هذا المنهج من قبل المفسرين(2)، ولعل أهم الأسباب هو القدسية التي ينظر بها المفسرون إلى مسألة ترتيب القرآن الكريم والمصحف الشريف، باعتبار أن القرآن الكريم والمصحف الشريف ـ ومنذ الصدر الأول للإسلام وحتى يومنا الحاضر ـ مرتب بهذا الترتيب، الذي يبتدأ بسورة الحمد وينتهي بسورة الناس، فراعى المفسرون هذا الترتيب وساروا عليه في تفسيرهم.
وبهذا تختلف السنة النبوية عن القرآن الكريم، لأن السنّة لم يتم تدوينها بهذه الطريقة المقدسة، وأعتمد في تدوينها الموضوعات الفقهية والعقائدية، فكان المنهج الموضوعي، هو المنهج العام فيها، في عصر التدوين الثاني.

ثانياً: التفسير الموضوعي:

وقد ولد في أحضان المنهج الترتيبي (التجزيئي) في التفسير، منهج آخر هو المنهج الموضوعي، حيث ولد هذا المنهج ومنذ بدايات تكوّن علم التفسير في أحضان المنهج الترتيبي وأن لم يكن ـ آنذاك ـ منهجاً شاملاً لكل القرآن الكريم، وإنَّما كان المفسرون يقفون أحياناً ـ وأثناء تفسيرهم الترتيبي ـ عند موضوع من الموضوعات القرآنية كـ(الألوهية) أو (التقوى) أو (الشفاعة)... فيفردون لـه بحثاً مستقلاً، محاولين بذلك استكشاف النظرية القرآنية الخاصة به، من خلال عرض وتفسير كل الآيات التي أشارت لـه، وفي مختلف المواضع.
وقد تطور هذا المنهج في عصرنا الحاضر ـ تبعاً للحاجة إليه ـ حتى أصبح منهجاً مستقلاً في البحث والتدوين، وشاملاً لكل القرآن الكريم.
وإذا عرفنا أن القرآن الكريم، قد تناول كل الموضوعات الدينية، بل في بعض النصوص المأثورة، ما يشير إلى تناوله لكل شي في الوجود(3)، وقد يفهم ذلك ـ أيضاً ـ من قوله تعالى: ?... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء...?(4).
إذا عرفنا ذلك يمكننا أن نتصور مدى الكم الكبير من الموضوعات التي يمكن تناولها من خلال هذا المنهج التفسيري.

المقصود من (الموضوعية) في هذا المنهج

قد يتبادر إلى الذهن بأن المقصود من كون هذا المنهج منهجاً موضوعياً، هو أن يكون البحث فيه بحثاً معتمداً على الحقائق العلمية الخارجية، في مقابل البحث الذي يعتمد على الظنون والأوهام أو الذوق والاستحسان، بحيث يكون بحثاً متحيّزاً، يتبنى فيه الإنسان أفكاراً مسبّقة يحملها على القرآن الكريم.
إلا أن الحق إن هذه الصفة لا تشكل مائزاً للمنهج الموضوعي في مقابل المنهج الترتيبيى (التجزيئي)، بل هي صفة ضرورية ومطلوبة في كلا المنهجين، لأن تفسير القرآن لابد أن يعتمد على الآيات القرآنية الاُخرى، التي تلقي ضوءاً على فهم القرآن، وكذلك على الوسائل العلمية التي اعتمدها القرآن والإسلام في إثبات المعاني والمضامين المقصودة من الألفاظ(5)، والاعتماد على الأوهام والظنون، والتحيز في التفسير، وتبني الأفكار المسبّقة فيه، هو من (التفسير بالرأي) الذي ورد النهي عنه بشدة في السنّة النبوية، حتى عبرت عنه بعض الروايات بدخول النار والكذب على الله: ((...من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار))و ((... ومن جادل في آيات الله كفر.. ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب.. الحديث)) (6).
والصحيح أن (الموضوعية) المذكورة في هذا المنهج تعني أحد أمرين:
الأول: هو ملاحظة الموضوعات الحياتية الخارجية المختلفة التي يعيشها الإنسان في هذا العصر، ومحاولة دراسة هذه الموضوعات على ضوء القرآن الكريم، من أجل تحديد الموقف القرآني منها.
فنأخذ ـ مثلاً ـ موضوع انتخاب الحاكم من قبل المجتمع، ونخضعه للدراسة على ضوء القرآن الكريم، لنرى هل أن هذا الانتخاب صحيح، أو باطل قرآنياً ؟ أو أن فكرة الانتخاب صحيحة في أصلها، ولكن تحتاج إلى إصلاح ؟ وهكذا الأمر بالنسبة إلى كل ظاهرة وموضوع نواجهه في الحياة الإنسانية.
ولعل هذا المعنى للموضوعية هو المراد من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) والتي تحدثت عن تأويل القرآن الكريم، حيث ذكر في هذه الروايات أن القرآن الكريم لـه تأويل في كل عصر وزمان ولا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
فقد روى الصفّار، في بصائر الدرجات، بطريق معتبر، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: ((سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: (ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن) قال: ظهره وبطنه تأويله، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشّمس والقمر كلّما جاء تأويل شيء يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: (وما يعلم تأويله إِلاّ الله والراسخون في العلم)، نحن نعلمه)) (6).
فبطن القرآن تأويله، وتأويله هو تطبيق القرآن على ما يأتي من الحوادث والموضوعات، مما لم يكن في عصر نزول القرآن، فهو في هذا الانطباق على الحياةالاجتماعية، مثل الشّمس والقمر التي تنطبق على الحياة الكونية، فكلما وجدت ظاهرة اجتماعية جديدة، كان للقرآن الكريم تأويل وتطبيق، فهو ينطبق على الأحياء الآن كما كان ينطبق على الأموات.
وتؤكد هذه الرواية ما رواه الصفّار بطريق معتبر ـ أيضاً ـ عن إسحاق بن عمار من قول الصادق (عليه السلام): ((أن للقرآن تأويلاً، فمنه ما قد جاء، ومنه ما لم يجىء، فإذا وقع التأويل في زمان إمام من الأئمّة عرفه إمام ذلك الزَّمان)) (8).
وقد شكل هذا المنهج، وهو تطبيق الآيات على المصاديق والشواهد الحياتية الخارجية، أحد خصائص التفسير المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (9).
الثاني: اختيار الموضوعات القرآنية وتقسيمها، موضوعاً موضوعاً في مجال البحث والتناول، ثم نأتي بكل الآيات القرآنية التي تناولت ذلك الموضوع من أجل استنباط النظرية القرآنية الخاصة به.
فهي عملية استكشاف للصورة، بربط أجزائها بعضها ببعض، لاكتشاف التصوّر القرآني الكامل عن أبعاد الموضوع الذي يتناوله البحث، فليس التفسير الموضوعي هنا مجرد جمع الآيات القرآنية وتفسيرها حول موضوع واحد، بل هو استكشاف النظرية القرآنية حول هذا الموضوع من خلال هذا الجمع والتفسير.
وبهذا يكون هذا المعنى من التفسير الموضوعي مكملاً للمعنى الأول(10).

حاجة العصر إلى التفسير الموضوعي

لقد عرف الإسلام في أنظمته وتشريعاته طريقه إلى المجتمع ـ في الصدر الأول ـ من خلال التطبيق، ذلك لأن الجانب الاجتماعي من الإسلام لم يطرحه الرسول (ص) كنظريات عامة، ثم جاء التشريع والتقنين بناءً فوقياً لها ليشمل جميع مناحي الحياة، وإنَّما طرحه الرسول (ص) من خلال التطبيق الخارجي لها وحسب الحاجات ومتطلبات الحياة الجديدة، حيث كان يبين القوانين والتشريعات اللازمة ويشخص الأحكام المختلفة في قضايا المجتمع التفصيلية.
ولذلك لم يكن الإنسان المسلم بحاجة إلى تصور النظرية، لأنَّه يعيش الإسلام وروحه وآثاره من خلال التطبيق.
ولكن حينما انحسر الإسلام عن التطبيق في مجتمع المسلمين وواجه النظريات المذهبية الاجتماعية والعقائدية المختلفة، ظهرت الحاجة الملحة إلى البحث الموضوعي القرآني في مختلف المجالات، لأن الإسلام أصبح بحاجة إلى أن يُعرض كنظرية مذهبية جاء بها الرسول(ص)عن طريق الوحي الإلهي، وذلك من أجل أن تتضح الصورة الإسلامية في مدى صلاحية النظرية لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة وفهم الإنسان المسلم لها واستيعابها أولاً، ومن أجل مواجهة النظريات المذهبية ومقارنتها بالنظرية القرآنية ومعرفة أوجه الشبه والاختلاف بينها ووجه الامتياز عليها في النظرية القرآنية ثانياً، وللتقليل والتحديد من التناقضات المذهبية أو الاختلافات الفقهية، التي كان أحد أسبابها الاستغراق في التفاصيل والتركيز على الجزئيات ثالثاً.
وعلى أساس هذه الحاجة اخترنا هذا المنهج التفسيري في بحثنا الحاضر، حيث اخترنا موضوعاً من الموضوعات الحياتية المهمة التي تناولها القرآن الكريم، وحاولنا إعطاء النظرية الخاصة به من خلال مجمل الآيات التي تناولت أبعاده المتعددة، والقرائن ذات العلاقة به.

2 ـ موضوع البحث وأهميته

سبقت الإشارة إلى أن القرآن الكريم تناول عدداً كبيراً من الموضوعات العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية... وغيرها من مختلف الشؤون والمجالات.
ولعل موضوع (المجتمع الإنساني) الذي عنونّا به بحثنا هذا هو من أهم الموضوعات التي تطرق إليها القرآن الكريم لعدة أسباب:
منها: يشتمل عليه من أبعاد مختلفة، عقائدية واجتماعية وتاريخية وأخلاقية، مثل بداية وجود الإنسان وبداية تكوّن المجتمع الإنساني، والعناصر الأساسية المقومة لـه، والسنن التي تتحكم في حركة المجتمع والتأريخ، والمراحل العامة التي مرّ بها المجتمع الإنساني، وحركة التكامل فيه، والتصور العام الذي يجب أن يكون عليه المجتمع الإنساني الصالح، والنهاية التي لابد أن يصل إليها، والعوامل الروحية والاجتماعية التي تسوقه نحو الكمال وتحقيق الأهداف التي وضعها الله تعالى أمامه.
ومنها: سعة دائرة تناول القرآن الكريم لهذا الموضوع، لأن هدف القرآن الكريم هو هداية الإنسان وسعادته وتكامله وإخراجه من الظلمات إلى النور، وبناء المجتمع الإنساني الصالح من أهم أسباب هذه الهداية والتكامل، وبذلك أصبح الإنسان في القرآن الكريم موضوعاً وهدفاً رئيسياً.
ومنها: أن البحث في موضوع (المجتمع الإنساني) من أهم البحوث التي أهتم بها الإنسان في هذا العصر، فهو موضوع حيُّ مادام الإنسان حيّاً على وجه هذه الأرض، ولا يختلف عالمنا الإسلامي عن غيره في هذا الأمر، فبعد أن انتشرت في عالمنا المعاصر العديد من النظريات التي تناولت هذا الموضوع ومن مختلف الاتجاهات الفكرية، كان لابد للبحوث الإسلامية أن تتناوله من خلال رؤية القرآن الكريم، لمعرفة النظرية القرآنية والتصور الإسلامي بشأنه، ليقدم هذا التصور إلى المجتمع الإنساني ككل، قبال النظريات والتفسيرات المادية الأخرى.

الإنسان محور الحياة

والذي يؤكد أهمية هذا الموضوع هو ما نلاحظه في القرآن من اعتبار الإنسان كمحور أساس للحياة والكون والمجتمع، وبذلك امتازت النظرية القرآنية على غيرها من النظريات.
ويمكن أن نرى ذلك بوضوح من خلال الأمور والأبعاد التالية:

الخلافة في الأرض

البعد الأول: هو ما ذكره القرآن الكريم من أن الله تعالى جعل الإنسان خليفته على الأرض، وبذلك أمتاز الإنسان على بقية المخلوقات.
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـ ئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً...) (11).
وحينما تساءلت الملائكة عن سبب جعل الإنسان خليفة، وهو الذي يصدر منه الفساد وسفك الدماء، دونهم، وهم يسبحون الله ويقدسونه ?... قَالُواْ أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ...?، أجابهم سبحانه وتعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ?... قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ?(12).
ثم عرض سبحانه وتعالى مبرراً عملياً لهذا الامتياز وحق آدم (عليه السلام) بالخلافة دونهم، حيث ميزه بـ(العلم) وذلك بتعليمه الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة وطلب منهم أن ينبؤه بأسمائهم، فلما عجزوا، طلب من آدم أن ينبئهم بهم، ثم أكد سبحانه وتعالى لهم القول: بأنه يعلم ما في نفوسهم، قال تعالى:
?وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاَْ سْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَـ ئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ _ قَالُوا سُبْحَـنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ_قَالَ يَــَادَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمـوَ تِ وَالاَْ رْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ?(13).
وهنا يمكن أن نفهم الخلافة على أنها خلافة تشريعية في إدارة شؤون الأرض والتصرف فيها وفي إدارة نفسه وفي إدارة الكون المحيط به، كما يفهم ذلك من بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عن الحكم ومسؤولية الإنسان عن سلوكه وعمله تجاه هذه الأمور، قال تعالى: ?يَـدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَـكَ خَلِيفَةً فِي الاَْ رْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...? (14).
وكذلك قوله تعالى: ?وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالبَيِّنَـتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُـجْرِمِينَ _ ثُمَّ جَعَلْنَكُمْ خَلَـئِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ?(15).
كما يمكن ـ أيضاً ـ أن نفهم هذه الخلافة بأنها خلافة تكوينية ليكون مسؤولاً عن القيام بأعمار الأرض وإدارة شؤونها، والحركة والسلوك فيها: ?هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبَها وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ?(16).
وهذا ما سوف نتناوله بالبحث إن شاء الله.

التفضيل والتكريم

البعد الثاني: هو بُعد تفضيل الإنسان وتكريمه على كثير من المخلوقات، وهو ما يفهم من أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لادم (عليه السلام)، والذي يعبر عن الخضوع والاعتراف بهذه الحقيقة الإلهية، والموقع المتميّز لـه بالخلافة لله تعالى على الأرض، قال تعالى: ?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لاَِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـفِرِينَ?(17).
وكذلك ما ورد من تكريم الله تبارك وتعالى للإنسان على كثير ممن خلق، وتفضّيله عليهم تفضيلاً، وفي هذا إشارة إلى الموقع المتميز لـه على من حوله في الأرض، بل والكون أجمع، قال تعالى: ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَـهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَـهُم مِنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَى كَثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً?(18).
فأن القرآن لا يذكر مثل هذا الوصف (كرّمه) و (كرّمنا) بصيغة التفضيل لأي مخلوق في هذا الكون ما عدا الإنسان، وحتى الملائكة الذين وصفهم بالطاعة والعبادة، وأنهم (... عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) (19)، لم يصفهم سبحانه وتعالى بهذه الصيغة من التفضيل.

حمل الأمانة

البعد الثالث: ـ الذي خصّ الله به الإنسان ـ هو حمل الأمانة دون المخلوقات جميعاً، قال تعالى: ?إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالاْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (20)، وقد خص الله سبحانه الجبال بالذكر دون غيرها من المجودات، لما في مظهرها - مما يراه الإنسان ـ من الضخامة والقوة والقدرة والرسوخ الذي به ثبتت الأرض ورست، ومع كل ذلك لم تتمكن من حمل هذه الأمانة الإلهية، وكان الإنسان مؤهلاً لكل ذلك، دون السماوات والأرض والجبال.
وسوف نشير ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث لاحق إلى معنى (الأمانة)، ومعنى كون الإنسان ظالماً وجاهلاً، وما يهمنا هنا هو تحديد هذا البعد بشأن الإنسان فقط.

تسخير الموجودات للإنسان

البعد الرابع: هو أن الله تبارك وتعالى سخر بقية الموجودات للإنسان، وجعله قادراً على التصرف فيها، كما في قوله تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون _ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمـوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ?(21).
وكذلك قوله تعالى: ?اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمـوَ تِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّـمَرَ تِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الاَْ نْهَـرَ_ وَسَخـرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل وَالنَّهَارَ?(22). وغيرها من الآيات(23).
ويمكن اعتبار هذا التسخير والقدرة عليه شعبة من شعب الخلافة وبعداً آخر فيها، والذي يعني إعطاء الإنسان الإمكانات والقدرات التي يحقق بها هذا التمكن من الأرض والكون المحيط به، تعبيراً عن الخلافة التكوينية على الأرض والتي منها قدرته على تسخير الموجودات فيها، والتي تمثل شيئاً من الامتداد للقدرة الإلهية في التصرف في الأرض والكون، بالإرادة والاختيار، والعقل والعناية الربانية.
فالإنسان بما وهبه الله تعالى من (عقل)، أصبح قادراً على تصور الأشياء في المستقبل بالتركيب بين المفردات الحسية، ومن خلال (إرادته)، أصبح قادراً على السعي لإيجاد هذه الصورة في المستقبل.

الإنسان محور التغيير في الكون

البعد الخامس: هو أن الله سبحانه وتعالى، ربط التغييرات الحياتية في هذا الكون، بالتغييرات التي تطرأ على الإنسان، ومحتواه الداخلي (الروحي والنفسي) وهذه صفة وخصوصية تميز الإنسان بها على بقية الموجودات، بحيث أصبح هو المحور لهذه الموجودات.
وهذا البعد يمثل النتيجة لبقية الامتيازات السابقة ويعبر عنها، فنحن نرى من خلال القرآن الكريم، أن التغييرات الاجتماعية في الحياة الإنسانية، ترتبط بالتغييرات النفسية، والتغييرات الكونية ترتبط بالتغييرات الاجتماعية الكلية، قال تعالى: ?... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ...?(24).
وكذلك قوله تعالى: ?وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَـت مِّنَ السَّمآءِ وَالاْرْضِ وَلكِن كَذَبُواْ فَأَخَذْنَـهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ?(25)، إذ ربطت هذه الآية التغيير الذي يحصل في السماء والأرض من نزول البركات والخيرات بالمجتمع الذي تسوده التقوى والإيمان، وعلى العكس من ذلك عندما يعم المجتمع الإنساني الكفر والفساد والفسق والفجور، يتعرض الإنسان إلى العقاب الإلهي والهلاك، كما أشارت إلى ذلك هذه الآية الكريمة، وكما يدل عليه قوله تعالى: ?ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?(26).
وخلاصة ما يستفاد من الأبعاد السابقة التي ذكرها القرآن الكريم، أن الإنسان يمثل المحور الأساس في هذا الكون المحيط به من سماوات وأرض ومخلوقات، ومن ملائكة وجن وحيوانات ونباتات.
ولعل العنصر الأساس الذي استحق به هذا الامتياز، بحيث أصبح المحور في هذه الحياة، هو ما أشار إليه القرآن الكريم في بدأ خلق الإنسان، حيث أن الله تبارك وتعالى نفخ فيه من روحه، فهو نفحة إلهية تحمل في جوهرها قدراً من الصفات الإلهية، قال تعالى: ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَـل مِّنْ حَمَاء مَّسْنُون _ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لـه سَـجِدِينَ?(27)، ولعل هذا هو الذي يفسَّر الطلب من الملائكة السجود لآدم.

3 ـ فصول البحث

تبين لنا من خلال العرض للأبعاد المتعددة للإنسان أن الحديث عنه سيكون حديثاً هاماً، لأنه يشكل عنصراً مهماً في فهم النظرية القرآنية عن المجتمع الإنساني. وسوف نتناول في هذا الحديث بداية خلق الإنسان وخلافته في الأرض لنعرف:
أولاً: معنى الخلافة ومبرراتها الذي سوف يلقي ضوءاً على هذا الامتياز والمحورية.
ثانياً: مسيرة هذه الخلافة من خلقها ووجودها وحتى قيامها على الأرض، وبذلك تتحقق بداية المجتمع الإنساني على الأرض.
وقد ارتأينا أن يشكل هذان الموضوعان (الباب الأول) من هذا البحث، ويكون ذلك في فصلين.
وأما الباب الثاني من البحث، فهو يتناول ( المجتمع الإنساني ونشؤه)، حيث نتناول في هذا الباب ـ إن شاء الله ـ العناصر الأساسية التي يتكون منها المجتمع الإنساني،والوحدة الفطرية التي كان يقوم عليها هذا المجتمع، ووجود الاختلاف فيه بعد ذلك من خلال العامل الفطري البدائي.
وفي الباب الثالث نتحدث عن تأثير الهوى على الوحدة الفطرية وعناصر الثورة والتغيير في المجتمع.
وفي الباب الرابع نتناول موضوع الدين في المجتمع الإنساني، ودور العقيدة الدينية في تقديم المثل الأعلى للإنسان، وتأثير ذلك في العلاقات الاجتماعية، وسنحاول أن نقارن بين ما يطرحه الإسلام، وما تطرحه النظريات الأخرى في هذا المجال.
وفي الباب الخامس نتناول الدولة الإلهية والمجتمع الإنساني، من خلال عرض العناصر الأساسية لوحدة المجتمع الإنساني في نظر الإسلام، ومقومات الدولة وخصائصها، التي تتجسد في المُثل والقيم، وفي التشريع الإسلامي، والحاكم الإسلامي والأُمة.
وفي الباب السادس نتناول موضوع الأُمة الواحدة والمجتمع الإنساني، في محاولة لبيان النهج الذي اتبعه الإسلام، لتحقيق وحدة المجتمع الإنساني، من إيجاد الأُمة الواحدة، والتأكيد على دور الأخلاق في ذلك، ووضع قواعد وضوابط لتحكيم هذه الوحدة.
وفي الخاتمة نتناول الآثار والنتائج التي حققها الإسلام في هذا المجال، من خلال عرض مواصفات المجتمع الإنساني الفاضل، ومدى تحقيق الإسلام لهذه المواصفات.

پاورقيها:

(1) راجع علوم القرآن للمؤلف: 343، مجمع الفكر الإسلامي.
(2) راجع محاضرات التفسير الموضوعي للشهيد الصدر: 19 ـ 42، المؤتمر العالمي للشهيد الصدر(قدس سره).
(3) في الصحيحة، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، قال: ((إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى ـوالله ـ ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا اُنزل في القرآن ؟ إلاّ وقد أنزله الله فيه))، وفي حديث آخر معتبر عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: ((ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنة))، الكافي1: 59 الحديث 1 و4.
(4) النحل: 89.
(5) وهو ما يتم بحثه في أبحاث الدليل الشرعي أو العقلي من أبحاث اُصول الفقه، راجع علم الاُصول، الحلقة الأولى: 177، و229 ـ 231، مجمع الفكر الإسلامي.
(6) وسائل الشيعة 18: 140، ب13صفات القاضي، حديث: 35، عن كتاب التوحيد، و37، عن الخصال، وأحاديث عديدة اُخرى.
(7) وسائل الشيعة 18: 145، باب 13 صفات القاضي، حديث:49، عن بصائر الدرجات.
(8) المصدر السابق: حديث: 47.
(9) راجع علوم القرآن ـ التفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ـ: 307، للمؤلف.
(10) علوم القرآن: 346، ط3، عن المدرسة القرآنية، الدرس الثاني: 28، للشهيد الصدر (قدس سره).
(11) البقرة: 30.
(12) البقرة: 30.
(13) البقرة: 31 ـ 33.
(14) سورة ص: 26.
(15) يونس: 13 ـ14.
(16) المُلك: 15.
(17) البقرة: 34.
(18) الإسراء: 70.
(19) الأنبياء: 26، إشارة إلى قوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ).
(20) الأحزاب: 72.
(21) الجاثية: 12 ـ 13.
(22) إبراهيم: 32 ـ 33.
(23) الحج: 65، النحل: 12 ـ 14، وغيرها.
(24) الرعد: 11.
(25) الأعراف: 96.
(26) الروم: 41.
(27) الحِجر: 28 ـ 29.

مقالات مشابه

بازخواني تفسير موضوعي آيت الله جوادي آملي

نام نشریهحسنا

نام نویسندهسهیلا پیروزفر, زهرا طالبی

روش شناسی تفسیر موضوعی در روایات اهل بیت (ع)

نام نشریهتفسیر اهل بیت (ع)

نام نویسندهعلی راد, مسعود حسن‌زاده گلشانی

رهیافت روش شناسانه شهید صدر در موضوع نظریه قرآنی

نام نشریهتفسیر و زبان قرآن

نام نویسندهمحسن قاسم‌پور, مریم نظربیگی

تفسیر موضوعی قرآن کریم از امتناع تا امکان

نام نشریهبلاغ مبین

نام نویسندهعباس زراع بیدکی

تأملی در کتاب پژوهشی در تفسیر موضوعی

نام نشریهکتاب ماه دین

نام نویسندههاجر خاتون قدمی

چیستی تفسیر موضوعی و تفاوت آن با تفسیر قرآن به قرآن

نام نشریهمطالعات تفسیری

نام نویسندهحسین علوی‌مهر, لیلا غلامی

ماهيت تفسير موضوعي

نام نشریهقرآن شناخت

نام نویسندهمصطفی کریمی